د.سهام صالح العبودي
في نظام إعارة الكتب القديم - للذين ما زالوا يتذكَّرونه - كانت المكتبة تضمِّن الكتابَ جيبًا ورقيًّا في داخله ورقة مجدولة تُكتب فيها قائمة مستعيري الكتاب؛ لأغراض إحصائيَّة وتنظيميَّة تخصُّ المكتبة، لكنَّها بالنسبة إلى قارئ فضولي لا يفوِّت فرصة الاطلاع عليها فإنَّها تمثل تأريخًا قرائيًّا يجمع غرباء في قائمة واحدة، تجمُّعٌ حميميٌّ يكاد يختفي في عالم التقنية، مصادفات ترتِّب القوائم؛ فقائمة قراءة مثل هذه قد لا تحدِّد هدفنا القرائي، أو الأسلوب الذي نقرأ به، والأثر الذي يتركه المقروء في كلِّ واحد منَّا، فتلك دوائر واسعة تتضمَّن إشكالات التلقي، والتفسير، والتأويل، والقبول والرفض. لكنَّها قائمة صغيرة تؤكِّد أنَّ مجموعة أشخاص قد وقعوا - في وقت ما - تحت سطوة مؤثِّر فكري واحد.
إنَّ رياح الأفكار تهبُّ بلا انقطاع، وسواءٌ أهبَّت في شكل كتابةٍ أم صوتٍ أم صورة فإنَّ تأثيرها في الإنسان حتمي؛ لأنَّه مهيَّأ تكوينًا واستعدادًا للقبول والرفض، ثم الانتماء، أو عدمه. على اختلاف الشكل الذي يتحقَّق به هذا الانتماء وعمقه، وأهدافه.
تسمح الأفكار لمعتنقيها أن يكونوا منتمين إلى أشباههم كما لو أنَّهم ينتمون إلى عائلة واحدة؛ عائلة تمظهرت في أشكال منظَّمة: كالأحزاب والمدارس والتيارات، ويمكننا - اليوم - النظر إلى الشكل الذي يتجمَّع فيه الناس داخل العوالم الافتراضيَّة: الشبكات الاجتماعية (المجموعات، سلاسل المتابعة، والإعجاب، والقوائم... الخ) على أنَّها شكلٌ شجري آخر يجمِّع أفراده. تحدِّد أشكال الانتماء هذه من نحن بشكلٍ ما؛ فكلُّ انتماء يَسُدُّ خانة في الهُويَّة الفكريَّة ويعطي إشعارًا حتميًّا بالطريقة التي نفكِّر بها، وهو -شئنا أم أبينا- يحقِّق نوعًا من الولاء الخاصِّ للمجموعة، وللأفكار التي عُقدت أواصرهم بفضلها.
ويؤكِّد التاريخ أنَّ الألفة التي تحقِّقها الأفكار بين مجموعة من الأشخاص قد تكون أوثق من ألفة تتكوَّن بسبب رباط الدم، يمكننا ملاحظة شواهد هذا في معتنقي الأفكار التكفيريَّة التحريضيَّة الذين تقودهم أفكارهم المتطرِّفة إلى قتل أفراد من أقربائهم، أو الإساءة إلى أوطانهم تحت سلطة الولاء المطلق للفكرة، بالأفكار نفسها تنقسم الدول ويتفرَّق الناس على ضفَّتي أفكار، وإيديولوجيات متعاكسة ومتعادية.
لكن الانتماء إلى شجرة فكريَّة قد يتعرَّض - في وقت ما - إلى ما يقلقه في لحظات المساءلة، والمراجعة في مواقف شجاعة الانقلاب على النفس، وشرع باب العقل لهواء الأسئلة المناسبة، ويمكن أن ينتهي الأمر إلى القطيعة والتبرُّؤ كما يحدث مع الانتماء العائلي تمامًا، حين يظهر للمنتمي أنَّ هذه الأفكار هي ميراث عبء غير جدير بالاستبقاء، فيتخلَّص ممَّا اعتنقه، وتصف كتب التحوُّلات الفكريَّة الطريق الطويل الذي يقطعه العقل وهو يحقِّق انتماءه الفكري، أو وهو يتخلَّص منه، وفي الحالتين فإنَّ عمل العقل على تجديد أفكاره هو أكثر علاماته حيويَّة، والتحولات المتجرِّدة من الضغط والإكراه كانت أصحَّ تحوُّلات الفكر الإنساني. بالنسبة إلى المشاهير والأفراد ذوي المكانة فإنَّ انقلابًا مثل هذا يغدو حدثًا فكريًّا جديرًا بالملاحظة، والتعليق، والحكم، والمساءلة والنقد، يُقرأ وتعاد قراءته ويصبح تاريخًا يصف واقعة مؤثِّرة، وفي المقابل هناك ملايين الأفراد المغمورين الذين ينتمون، أو يخلعون أفكارهم القديمة، وتغزلهم الأفكار الجديدة ضمن محيط فكري آخر، وربما كان محيطًا نقيضًا لما كانوا عليه، يحدث هذا دون ضوضاء تذكر، لكنَّها تظلُّ حركة موجيَّة ضخمة وبطيئة، وبالغة التأثير في تكوين المجتمعات. بل إنَّ الشجرة الفكريَّة نفسها تطرح بعض أوراقها، وبتخلُّصها هذا تحقِّق تجدُّدها الخاص؛ فالأفكار يمكن أن يُساء استخدامها من قبل معتنقيها فيطالها التشويه، وإذا كان الإنسان هو أفكاره، فإنَّ الأفكار هي معتنقوها، ويمكن الحفاظُ على وهج الأفكار بالاستعمال الواعي لها، ويمكن أن تتحقَّق حياة الأفكار بوجود من يتخلَّصون بالمقدار الذي يحقِّقه من ينتمون؛ لأنَّ بعض المعتنقين يمكن أن يكونوا خطايا وعارًا وحاجزًا يعيق وصولها الذي كانت تستحقه.
أجمل ما في الأفكار هي أنَّها لا تُرى، لكنَّها - بتأثيرها البالغ - تترك وجودها فيما يمكن ملاحظته، هذه الملاحظة هي التي نقيس بها قوَّة الفكرة، وسطوة مرورها، وتحقُّقها في الوجود: يانعة ومغرية تدعو مزيدًا من الناس للانتماء إلى شجرتها!
--
* فاصلة: العقل وحده -بخلاف جميع الأشياء الثمينة التي نملكها- هو الذي نحافظ عليه أكثر كلَّما أخرجناه من مخبئه!