د. سلطان سعد القحطاني
كتبت في حلقات سابقة من هذه المقالات الخفيفة البعيدة القريبة من ما تعود عليه مثلي من الأكاديميين الذين سيطرت على تفكيرهم البحوث العلمية زمناً ليس بالقصير في حياتهم العملية والثقافية، وهذا ليس تنصلاً من التخصص، ولا أستطيع ولا من لمثلي التنصل منه، فهي حياتنا وواقعنا، مهنة نعتز بها مثل غيرنا من أصحاب المهن، الفكرية والحرفية، ولكن هناك من العلماء والمثقفين والباحثين ممن لهم حق علينا في إثبات بعضٍ ما اجتهدوا فيه، ووفق منهم الكثير، والشكر موصول لكل من حاول في إظهار ما عنده لأبناء وطنه، وقد ذكرت فيما سبق رأيي في هذه المجموعة الموفقة، من الذين كتبوا عن مواطنهم وهم - بالطبع- أولى من غيرهم بمعرفة خفاياها وأسرارها، كما يقول الشاعر العربي: وصاحب البيت أدرى بالذي فيه. وطلبت من أبناء المناطق الأخرى أن يحذوا حذوهم ليكون عندنا مكتبة وطنية تزخر بتراثنا الزاخر الزاهي على مر العصور. والأستاذ الصحفي التربوي الباحث حماد بن حامد السالمي من طليعة هؤلاء، فقد وهب جل وقته وجهده لتوثيق تراث منطقته (الطائف) المأنوس كما يسميه، وحق له ذلك. فهو عضو في عدد من اللجان والجمعيات وغيرها مما يتعلق بالطائف. وكثير من المؤلفات التي ألفها وبحث فيها يفوق مقالات صحفية عابرة، وتستحق من الباحثين في التراث والجغرافيا الثقافية والمسارد التوثيقية أن تهتم بمثل هذه الأعمال الجليلة، لنا ولأجيالنا القادمة ومن أراد أن يبحث في تاريخ هذه البلاد، من أبنائها وغيرهم من الباحثين. وسنتناول في هذه الحلقة وما يليها بعضاً من هذه الجهود المباركة بقلم الباحث المذكور، ومما يلفت النظر في هذا الكتاب الذي سنستعرضه على عجل واختصار لظروف النشر مادته الطريفة، وهي ما يتحدث فيه عن الأغاني التي اختص بها أبناء الطائف كفنون موروثة تداولها الأحفاد عن الأجداد، واستقى منها كثير من الفنانين السعوديين والعرب كثيراً من ألحانها وإيقاعاتها المعبرة عن البيئة نفسها، تصريحاً في أغلبها وتضميناً في البعض الآخر، فالطائف عرفت منذ القرون الأولى بفنونها النابعة من صميمها، تصريحاً وتلميحاً، وقد قصدها الفنانون والشعراء وتغنوا بذلك الجمال، في أوديتها وشعابها ومتنزهاتها وأمطارها وورودها، وبعض النباتات التي لا توجد إلا فيها، وهي معروفة للجميع. وفي هذا الكتاب الذي بين أيدينا وهو هدية غالية من المؤلف نفسه تلقيته من يده في إحدى زياراته للرياض كضيف على الجنادرية واستضته في برنامج (رواد الثقافة) من إذاعة الرياض، وهو يستحق ذلك. ذكر المؤلف أن الطائف عرف الفنون بشموليتها، من مصدرين (الشعبي والطربي) وفي ظني أن الشعبي طربي بالدرجة الأولى، يقول: منذ أزمنة بعيدة ولا شك في قرون كان الحجاز بمدنه الأربع حاضناً لهذه الفنون، وما زال الطائف يعرف من الفنون الشعبية (المجرور، والقصيمي، والمجالسي، والحدري، وحيوما، ويله يله، والسامري، والمراد، والردح) وخلاف ذلك. ثم يذكر أنه حرص على توثيق الجانب الذي لم يتطرق إليه أحد من قبل. ويشير إلى أمر مهم وهو أن الأغاني التي تذكر الطائف وأمكنته ومواقعه كثيرة، وقد جاءت بأصوات فنانين من السعوديين والعرب، كما أشرت سابقاً، ويستشهد بالأغنية الشهيرة، التي كنا نرددها قبل أن نعرف الطائف، وهي من شعر سمو الأمير عبد الله الفيصل، وألحان الموسيقار، طارق عبد الحكيم (ياريم وادي ثقيف) عبرت الحدود وغناها كثير من المطربين والمطربات، قرابة ثلاثين فناناً وفنانة، من البلاد العربية وتركيا وإسبانيا، وكذلك المجرور، والشعر المغنى الذي يذكر محاسن بعض المواقع، مثل وادي وج، والمثناه والقديرة، وغيرها، وغدير البنات، والهدا، والشفَا. كل هذا الشعر لقي استحساناً من فناني البلاد العربية وتغنوا به في الحفلات والإذاعات والمناسبات العامة والخاصة. وللحديث بقية.