سلمان بن محمد العُمري
مما استقر لديَّ منذ مدة طويلة ومن قراءة وسماع ومشاهدة عيان وكون حكماً قاطعاً وقناعة تامة أن الذي لا خير فيه لوالديه لا خير فيه للناس، حتى وإن أظهر لهم المحبة والمودة واللطافة وحسن التعامل، وقيامه بأعمال وخدمات متعددة، وهو في حاله مع والديه مقصّر، فالواقع أن هذا التصنع والتكلف مرتبط بمصالح ليس إلا وليس طبعاً ولا خلقًا، فيزول بزوال المصلحة.
وكما يقال: «البر سلف»، وسيلاقي العاقون لوالديهم من أولادهم نتاج عقوقهم مع من سلف.
كنا في السابق نسمع أو نشاهد بعض القصص عن العقوق فنمتعض ونتكدر، ولكن الوضع للأسف قد تغير، ويسؤنا جميعاً ما ينتشر في وسائط التواصل من مقاطع علنية عن حالات عقوق الوالدين الشاذة والتي لا يكتفي أصحابها بشناعة فعلها بل يتباهون بها في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، وربما يقصر البعض أو يسوف أو يغفل بعض الأوقات عن البر والرحمة والإحسان لوالديه، وهو قصور وخطأ بلاشك، ولكن المؤلم أن يكون العقوق والتقصير سمة غالبة ليس من الشباب فحسب بل حتى ممن على الشيب رؤوسهم، مما يرسخ في بعض الأذهان وكأن حال المجتمع بهذا الشكل، ومثل هذا تعزيز لقساة القلوب، ويكون العقوق قولاً وعملاً، ومن المؤسف حقاً حينما يصف البعض والديه بالشايب والعجوز، ويكون الأمر أشد حينما يكونون مدعاة للسخرية والتهكم والاستهزاء بهم في مواقع التواصل الاجتماعي، لتسلية نفسه ورفقائه على حساب والديه الذين لم يسلموا من أذية أولادهم وأحفادهم ويتناقلها الصغير والكبير.
إن الأسرة هي الركيزة الأساسية في التنشئة والرعاية والتوجيه للأبناء منذ نعومة أظفارهم، ويساندها المؤسسات الشرعية والاجتماعية والتربوية والإعلامية وغيرها من خلال البرامج والأعمال التي يقدّمونها بمختلف الأساليب والوسائل المتاحة.
والوفاء مع الوالدين ليس قبل أن يكون واجباً شرعياً، فهو أكبر دليل على كمال الدين والعقل والخلق، فلا مثيل له على وجه الإطلاق، فكيف بالعقوق والهجران والإيذاء، والعقوق مع الوالدين التي جعلها الإسلام أكبر الكبائر بعد الشرك بالله حيث يرتبط الإيمان الصادق بالله - عز وجل - ببر الوالدين، يقول تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}، ويقول تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا}، وكثيرة هي الآيات القرآنية، والأحاديث النّبويّة الشريفة التي تحث على بر الوالدين، وتتوعّد من يقوم بالعقوق.
والعقوق حالة مزرية يصل إليها بعض البشر، فتحيلهم لبشر بمواصفات غير إنسانية بمعنى بشر بالشكل!!، وقد حار في أسبابها العديدة علماء الدّين والاجتماع والطب النفسي، فمنهم من يقول إنها تعود لنشأة العاق نفسه، على أنّه تربّى على شيء منها في حياته، فربّما يكون قد رأى جفاءً من أبيه لجدّه أو جدّته، وربّما يكون قد عانى من المصائب بسبب والديه، كما أنّ بعضهم قد يصاب بالعقوق بسبب ما يخالطهم من أصدقاء السّوء ورفاق الشّر، فيتعلّم منهم من العادات قبيحها ومن السلوكيّات بغيضها، وبعضهم تلصق به هذه الرزية بسبب زوجة لا تعرف للطاعة سبيلاً، فتحرّضه على الابتعاد عن أمّه وأبيه، وقد تحثّه على جحود فضائلهما ومعاملتهما بقسوة، كما أنّ من أسباب العقوق بعض ما أتت به تقنيات العصر وحضارته المزيّفة، وأقصد بها تلك الأفكار الغريبة والعادات المستهجنة التي أتتنا من وراء البحار، فهناك يحتقرون، ولا يهتمّون بذويهم، وقد يتعلّم أبناؤنا منهم بعض ذلك مما يدمي القلب، ويذرف الدّمع مما يسمعه المرء من قصص وحكايات في المجتمع من عقوق فاضح لأبناء تجاه والديهم.
وظاهرة الاعتداء والإيذاء وإزهاق أرواح الوالدين، قد يكون من أسبابه تعاطي المخدرات بأنواعها مما يجعل الفرد خالي العقل وبما يدور حوله. قال - عليه الصلاة والسلام - حينما سُئل: ما حق الوالدين على ولدهما؟ فقال للسائل: (هما جنتك ونارك)، والهداية من الله عز وجل بلا شك ولكن بعض الآباء والأمهات يجنون ثمرة سوء التربية لأبنائهم فعدم إحسان التربية، وعدم مساعدتهم في اختيار الصحبة الصالحة، وعدم الدعاء بالبركة لهم، والإنفاق عليهم بنفس طيبة، ربما كان سبباً في ظهور بعض الحالات السلبية وهذه الكبائر والمصائب التي يشيب الرأس من سماعها وقراءة أخبارها، والله إنه لأمر محزن وموجع فعقوق الوالدين من أكبر الكبائر وجريمة كبيرة وسيئة عظيمة عقوبتها منتظرة من رب العالمين في الدنيا والآخرة، ويكفي من ذلك الحديث الذي يقول: «ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالدية، ومدمن الخمر، والمنان»، وعلى الآباء أن يكونوا عوناً لأبنائهم على البر بهم وصلتهم وعدم عقوقهم وذلك بالبعد عن المسببات والبواعث للخلق غير الحسن فلا إفراط ولا تفريط، ويجب البعد عن اللين المفرط والقسوة المفرطة أيضاً.
إن على الزملاء الإعلاميين والتربويين والدعاة والخطباء أن يعززوا القيم في المجتمع بالتوعية والحث على ذلك، ونشر الصور الوضاءة الجميلة فهي خير محفز لمن وفقهم الله على أعمال البر.