د.فوزية أبو خالد
لو أراد مخرج سينمائي أن يعبّر بأقصى طاقات الخيال عن اللحظات الأخيرة من آخر يوم للبشر على الأرض واللحظات الأولى من يوم القيامة, لما وجد أشد تعبيراً عن ذلك التشابه المريع بين ما يقع في الروع عن لحظة الهلع الأكبر من مرويات التراث وقصص الفرقان العظيم, وبين الصور الطائشة لبشر من لحم ودم وأرواح كانوا يعيشون أوضاعهم اليومية المختلفة وفجأة تطاير ريشهم على الشاشات في غير اتجاه لحظة الانفجار البيروتشيمي في سماء لبنان.
بنتُ تلاحق طيارة ورق على الشرفة تنهار الشرفة وتهوي الطفلة إلى قاع الحطام فيما يتفحّم ورق الطيارة في ركام الدخان.
ولد يلعب بالآيبد ينفجر الجهاز في وجهه ولا يجدون من الطفل إلا أجنحة محترقة في رماد المرفأ.
سيدة كانت تغني أغنية قديمة لصباح عالبساطة البساطة بينما تعد «قدر مجدرة» و»صحن هندبة» لصغارها حين ضرب إعصار الانفجار المطبخ فلم يبق منها إلا نصفها يلتف مع أطفالها في كفن واحد من دخان العداء للحب والحياة.
عروس في ريعان العمر تقف بنشوة الفرح أمام الكاميرا بباقة الورد والبياض الفجري الشفيف لثوب وطرحة العرس وعلى حين غرة تهاجمها شياطين الإنس والجن وتتخطف زهوها مخالب الدخان.
أب يتخبط بين الباب وبين الجدار في حيرة مصعوقة أين يخبئ طفله من غارة الغدر.
سيدة عاملة تنحني على الأطفال تكومهم تحتها كبيض حمام في مواجهة أفاعي النار فيما تواجه شظايا زجاج النوافذ بظهر عارٍ.
ممرضة تهرب بثلاثة مواليد بحثاً عن مأمن بعد أن تسلّل العدو إلى المستشفى يضخ في مجون متعمد غاز الموت في عنبر الأطفال.
يد شغوفة في مكتبها كانت قبل أقل من برهة تعزف على المحمول قصيدة جديدة ترتمي الآن على لوح الكتابة مفرغة من الهواء بعد أن ذبحت الشظايا الشاعر من الوريد إلى الوريد في محاولة يائسة لمحو بيروت من شعر محمود درويش وسعيد عقل وشوقي بزيغ وقاسم حداد وأحمد الملا ونزار قباني وسعدية مفرح وليلى عساف وأمل جراح وجمانة حداد.
جدار انشق عن طائري عشق وقذف حمم الانفجار على الفراش.
سيد مسن يصطاد في عرض البحر كأنه بطل الشيخ والبحر تحول في ثوان إلى طُعم لحيتان الانفجار.
شباب من زهر نيسان وأغصان زيتون شبت النار في أجسادهم المشدودة وأرواحهم الشاهقة وهم يرمون بأنفسهم لإطفاء النار.
صبايا فارعات صبايا فاتنات صبايا صابرات صبايا حالمات صبايا متحجبات صبايا سافرات صبايا صور وصبايا طرابلس صبايا الجبل وصبايا الساحل صبايا ساحرات صبايا مسحورات صبايا أمهات صغيرات صبايا مسنات يقطرن بشهد الشباب صبايا مناضلات وصبايا مغلوبات صبايا متمردات صبايا يشبهن سحر فارس صبايا يشبهن حرية حرون يتخطفهن وحش الانفجار من النوافذ من البلكونات من الجامعة من المدارس من المكاتب وكأنه يريد الانتقام من إرادة الحياة نفسها.
عمال مغموسون بعرق الشغل مطمورون في الشقاء يطمرون من جديد وبشكل نهائي تحت الأنقاض
مواطنون متورّدون من فرط الحيوية وحب الحياة عاطلون عن الأمل لا يجدون سبيلاً لما يستحقون من الحياة يبتلعهم الانفجار.
أمُ في المخاض يهز الانفجار غرفة الولادة فتساقط عليها ألواح الزجاج بسخاء مرعب إلا أن فعل الولادة بحد ذاته في ذلك اليوم العاصف من تاريخ همجية الانفجارات وخروج طفل من مضيق الدخان لرحاب الحياة يقف رمز الإرادة لبنان في الخروج على الخراب السياسي الذي لم يكف يوماً بلد الكرامة والشعب العتيد عن حمل شعلتها جيل بعد جيل.