د. عيد بن مسعود الجهني
القانون الدولي يشترط أركاناً أساسية لقيام الدولة - أية دولة - وإذا توفرت تلك الأركان تعتبر الدولة شخصاً من أشخاص القانون الدولي العام.
تلك الأركان: شعب دائم، إقليم محدد، السيادة، السلطة الحاكمة، وأي إخلال في أحد تلك الأركان فإنه ينقل الدولة من دولة كاملة الأركان إلى دولة مختلة، أو قد تكون فاشلة، أو في طريقها للفشل.
ولكي يكتمل للدولة كيانها على إقليمها المحدد فإنها يجب أن تكون كاملة السيادة طبقاً لمفهوم القانون الدولي بتعريفها بأنها السلطة العليا للدولة في الداخل واستقلالها عن غيرها في الخارج.
وتبرز هنا السلطة الحاكمة كركن رابع للدولة، حيث يتعيَّن أن تقوم على أمر الجماعة سلطة داخلية لها الكلمة العليا في الإقليم، تمارس سلطانها على مجموع الأفراد الذين يتكون منهم شعب الدولة كوحدة قانونية وشخص من أشخاص القانون الدولي.
هذه أركان أسياسة للدولة، وإذا فقدت السلطة السيطرة على أراضيها أو بعضها وبسط سيادتها عليها، أو حتى فقدت القدرة الشرعية لاتخاذ القرارات الملزمة وتنفيذها وعجزها عن توفير الخدمات لمواطنيها بالقدر المعقول فإنها تصبح بذلك دولة فاشلة.
ولا يمكن أن تبلغ هذا المستوى المتدني في الحكم والإدارة إلا بعد أن يتفشى فيها الظلم وعدم إقامة العدل والمساواة، والفساد، والمحسوبية، والرشوة، لتصبح كالغول تنهش في جسد الأمة وإن كان الغول وحشاً كعادي السباع خرافياً، فإن الفساد والرشوة والمحسوبية والظلم مثلاً وحش مفترس حقيقي له أنياب وأظافر وهو أشد فتكاً من السباع بفريستها وأكثر خطراً على الشعوب من عادي السباع.
ولذا فإن الدولة قد تفقد كيانها بسبب فساد النخبة التي تدير دفة أمورها مع غياب المحاسبة والشفافية، واختلال ميزان الدورة الاقتصادية وتدني دخل الفرد واختلال الميزان التجاري وانحدار صرف العملة الوطنية.
التاريخ الحديث مليء بالعديد من الحكام الدكتاتوريين الذين أدخلوا دولهم في حروب هنا وهناك وتدخلات في شؤون دول أخرى، في عالمنا العربي بعض الحكام الذين وصلوا إلى سدة الحكم في القرن المنصرم عن طريق الانقلابات العسكرية وجعلوا من مؤسسات الدولة كلها مطية بأيديهم لتتحول إلى أداة قمع لا أداة بناء.
هؤلاء أمثلة ابتعدوا عن الحكم الرشيد، ولذا وجدنا دولاً عربية اليوم تعاني من ويلات الحروب الأهلية والتدخلات الخارجية منها العراق وسوريا واليمن وليبيا والصومال والسودان ولبنان والحبل على الجرار.
وبهذا فإن الدولة التي تتعرَّض لتلك العقبات تصبح غير قادرة على الوفاء بواجباتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية لمواطنيها، وينعدم مع ذلك الأمن والاستقرار ويعم الفساد وسوء الإدارة، وتفقد السلطة الحاكمة السيطرة على دفة أمور البلاد لتعم الفوضى لتتصدر الأحزاب والميليشيات المسلحة التدخل في شؤون البلاد لمصالحها الذاتية.
وبهذا فإن الدولة الفاشلة هنا لم تستطيع أن تلعب دوراً مستقلاً ككيان له دوره في العلاقات الدولية، وتتحول لتحكمها الميليشيات المسلحة، في ظل عجز الدولة عن فرض السيطرة على أراضيها أو حتى جزء منها، وضعفت سلطتها التشريعية التي يصعب عليها اتخاذ قرارات ناجزة، وتصبح الدولة في موقف ليس بمقدورها توفير الخدمات العامة لمواطنيها، وعدم القدرة على التفاعل مع المنظومة الدولية.
وإذا اكتملت تلك العناصر، عدم إقامة للعدل والمساواة وانتشار للظلم والفساد وانحدار الاقتصاد وتخلل الأمن وبروز دور الطوائف والميليشيات المختلفة والتدخل الخارجي ناهيك عن عاهات المؤشرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتدنية في جسد الدولة أصبح وصفها بأنها دولة فاشلة.
لبنان بلد الأرز بأهله الطيبين والأعداد الكبيرة صاحبة المؤهلات والخيرة، لبنان باريس الشرق الأوسط بلد الحريات والثقافة والعلم والفكر، لبنان بلد الـ(1500) عين مياه نقية جارية.
هذا البلد الجميل صورة ومعنى تحول اليوم إلى جحيم، تبدل أمنه خوفاً، وظله الوارف ناراً، وطقسه الرائع سموماً، فقد عاش أهل بيروت حالة رهيبة يصعب وصفها من الذعر والخراب والدمار.
اليوم رغم أن النخبة الحاكمة في تقسيم المناصب لم تتغيَّر كثيراً؛ فالرئيس مسيحي ورئيس الوزراء سني ورئيس مجلس النواب شيعي، إلا أن النوايا اختلفت والطوائف تعددت مسالكها، وأصبح لحزب الله دور مؤثِّر في توجيه سياسة ذلك البلد.
لبنان اليوم في محنة وأصبح في قائمة الدول الفاشلة سيادته مخترقة والتدخلات الأجنبية رائحتها واضحة خاصة إيران التي امتد ذراعها إلى لبنان، فتعددت مشاكله السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، فالدين العام بلغ نسبة خطيرة بالنسبة لإجمالي الناتج المحلي، 170 في المئة، واحتياطيه من العملات الأجنبية (20) مليار دولار، وأصبح غير قادر على سداد ديونه الضخمة ومنها مبلغ 1.2 مليار دولار مستحقة.
ومما يعقّد الأزمة أن ديونه الخارجية مع نهاية 2019 تبلغ 91 مليار دولار، ناهيك أن العنصر البشري اللبناني الباحث عن فرصة عمل يبلغ حوالي المليون عاطلين عن العمل في بلد كان يستورد العمالة الأجنبية لدعم التنمية المستدامة فيه.
وإذا أضفنا إلى تلك التعقيدات الشائكة ذوبان الليرة اللبنانية أمام الدولار الأمريكي منخفضة من 1500 إلى 8000 فهذا مؤشر خطير تنعدم معه تلك العملة خاصة مع تسرّب الودائع الدولارية إلى خارج البلاد، وتدن كبير في تحويلات اللبنانيين في الخارج، وبهذا تهديد خطير لعملة البلد الرسمية التي تعتبر أهم قواعد العمل المصرفي.
تلك المؤشرات الخطيرة جعلت المواطن اللبناني يقع بين مطرقة الغلاء الفاحش وسندان تدهور عملة بلاده فأصبحت ثروته بالليرة مهما عظم حجمها لا تؤمِّن له رغيف خبز خاصة مع فقدان الكثيرين لوظائفهم، ولذا سجَّل تاريخ لبنان من قاموا بالانتحار لعدم قدرتهم على تأمين لقمة عيش لأطفالهم الذين يصرخون جوعاً.
هذا كان قبل كارثة الميناء الكبرى التي تسببت إلى حد كبير بدمار شبيه بقنبلة هيروشيما التي أعلنت إنهاء الحرب الكونية الثانية، هذه الكارثة أبانت بجلاء دور الفئات والميليشيات المتصارعة على السلطة في لبنان، فالضحايا الذين لقوا حتفهم كبير والجرحى الذين تجاوزوا خمسة آلاف لم تشهد لبنان له مثيلاً في تاريخها.
إنها فاجعة كبرى، تبرز فشل الدولة وخلخلة جهازها الأمني والسياسي وعدم قدرتها على مواجهة المسؤولية الأمنية، وبروز سلطة تضاهي سلطة الدولة، فأصبحت الدولة غير قادرة على القيام بوظائفها الأساسية ولذلك ولانعدام الرقابة في نظام الحكم والإدارة حدثت الكارثة مخلّفة وراءها كوارث إنسانية واقتصادية واجتماعية ستعاني منها الدولة لسنوات قادمة، فالتكاليف المقدّرة لإعادة تشغيل الميناء ما بين 3 و15 مليار دولار ليست بذات السهولة في علم المال والاستثمار خاصة ولبنان يعاني أصلاً من عدم قدرته على الوفاء بديونه.
وإذا كان البيان الختامي لمؤتمر المانحين قرَّر الالتزام بتقديم المساعدات للبنانيين لتصلهم مباشرة وبشفافية، وهذا يفهم منه أن المانحين يدركون غول الفساد في البلاد وتخوفهم من أن مساعداتهم قد تأخذ طريقاً معوجاً قبل أن تبلغ مستحقيها.
وإذا كان أمين عام حزب الله قد صرّح جهاراً نهاراً بأنه يعلم عن المستودعات في تل أبيب أكثر مما يعلمه عن المستودعات التي خزنت بها الأدوات المتفجّرة لسنوات عدة، رغم أن المطار والميناء لحزب الله دور رئيسي في إدارته، فإن هذا أمر خطير ومأساة كبرى.
وإذا تأكد ما نشرته صحيفة نداء الوطن اللبنانية نقلاً عن خبراء عسكريين دوليين أن كمية نترات الأمونيوم البالغة 2750 طناً لم ينفجر منها سوى عدة مئات، أما الباقي فقد امتدت إليه يد السرقة، وبذا تصبح باقي الكمية أنها ما زالت على أرض الوطن، ويستطرد هؤلاء الخبراء قائلين إن انفجار كامل الكمية المخزنة لو حدث لأزال بيروت العاصمة من الوجود، فإن هذا الأمر لو ثبت ينبئ بشر مستطير.
وإذا كانت الدولة اللبنانية نفسها لم تعرف هي الأخرى عن تلك الكمية الكبيرة من المتفجّرات على أراضيها التي هي تحت سيادتها فإن الأمر يصبح أخطر، ومصيبة أعظم.
ويبقى أن لبنان الشقيق وهو يعيش هذا الزلزال العظيم بحاجة إلى ما يُسمى في علم الإدارة والحكم إلى إعادة هيكلة عامة شاملة لجميع أجهزته التنفيذية والتشريعية والقضائية، لإعادة الثقة السياسية والاقتصادية والأمن والاستقرار وخصوصاً مع تخلي بعض أعضاء السلطة التنفيذية وزميلتها التشريعية عنهما بتقديم استقالاتهم، الأمر الذي أجبر رئيس الوزراء نفسه على إعلان استقالته مما يؤكّد أن الخرق أكبر من الراقع في لبنان.
لبنان وهو يعيش هذه المصيبة غير المسبوقة بحاجة إلى خبراء دوليين مستقلين للتحقيق فيما حدث، هؤلاء الخبراء سيعلنون للدولة اللبنانية ما خفي وقد يكون أعظم.
والله ولي التوفيق،،،