د. عبدالله بن ثاني
نشر حمد بن جاسم في معرفه بتويتر بُعَيْد كارثة مرفأ بيروت عددًا من التغريدات عن الشأن السعودي صرفًا للإعلام عن مغامرات حزب الله والقوى اللبنانية التي استحضرت كل شيء إلا مصلحة لبنان الوطن الجريح والشعب اللبناني الشقيق، وقد نصَّ في تغريدته على: «وما يدعوني لهذا القول هو خوفي ليس على المملكة فحسب، بل على المنطقة كلها». كما أنه تحدث عن ملف خاشقجي وسعد الجبري بطريقة مسمومة وكذلك استحضر ملف المعتقلين كما يدّعي.
فأما ملف خاشقجي -رحمه الله - فلعل حمد بن جاسم لم يبلغه أنه قد انتهى تماماً بعد أن تم عرضه على القضاء وتم إطلاع العالم على تفاصيل المحاكمات وبحضور شخصيات عالمية في المحكمة للوقوف على نزاهة الإجراءات في المحكمة، وقد تابع خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- وسمو ولي العهد بنفسهما تفاصيل الملف وتم علاجه بطريقة شفافة وأمام وسائل الإعلام دونما تحفظ وتم التنازل شرعاً من قبل أهل الحق والدم أبناء المرحوم عن القضية وبكامل إرادتهم -جزاهم الله كل خير- بعد أن أنصفهم القضاء وصدر لهم الحكم -ولله الحمد- ولو أصروا على القصاص لتم تنفيذ ذلك لأن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز سبق وأن أجرى أحكام القصاص على بعض أبناء الأسرة المالكة مما يؤكّد على أن سيرته مشهودة في احترام شرع الله الذي لا يغيب عن لسانه دائماً من باب الورع والتقوى والمسؤولية في مجلس الحكم استجابة للمهمة الشريفة والولاية العظمى التي اختارها الله جلَّ وعلا له، بينما تحدث في العمليات الاستخباراتية في جميع أنحاء العالم مثل هذه الأخطاء الإجرائية ويتم التحفظ عليها وتسجل تلك الدول كثيرًا من تلك القضايا ضد مجاهيل، فلماذا يستحضر كل ذلك حمد بن جاسم في هذه الظرفية، وهل النوايا صادقة فعلاً في الخوف لأن الواقع يؤكد أن خوفه مزعوم في غير محله بسبب أنهم هم المسؤولون عن الثورات في العالم العربي وتفكيك النسيج وهيمنة المشروع الحركي وتفكيك الأمن القومي وتسليمه للأتراك والفرس وتحويل العرب إلى كومبارس في تلك المسرحية الدرامية التي تحولت إلى كوميدية من فرط سيناريو الدهشة، وهل المعتقلون -كما يزعم -بريئون من التكفير والكراهية والدماء والتشغيب أم أنهم رموز تنظيم سري يسعى لتحقيق مشروعه المتوحش على جماجم الشعب وتخريب مؤسسات الدولة وشن الحروب على العالم وسبي الشعوب وأحرار الناس وتحويلهم لعبيد وموال، والشرفاء يدركون أن استقرار المنطقة ومستقبل العرب وكرامتهم لن يحصل إلا في تأييد إصلاحات الأمير محمد بن سلمان بدليل منجزاته الخالدة في هذه السنين القليلة من ولايته للعهد، وقد كانت عصية على التحقيق فاستطاع بعبقريته تفكيك التوحش ووأد العنصرية والكراهية للشعوب وأعاد هيكلة الأجهزة الحكومية والقطاع الخاص وفرض هيبة الدولة الوطنية، ورأى العالم السعودية الحديثة بكل مقوماتها بعد القضاء المبرم على الفساد واستغلال السلطة وإعادة الناس لحياتهم الطبيعية وفرتهم السليمة التي ارتضاها الله لهم وحاول سموه أن يتغلب في السياسة على نظرية النوافذ المحطمة التي اكتسحت أعاصيرها العالم العربي في ما يُسمى بالربيع العربي لترميم البيت السعودي والعربي، بل إنه فرض ثقافة اقتصاد المعرفة وتعزيز موارد الميزانية بمدخولات جديدة تجاوزت الاعتماد على النفط مصدراً رئيساً ...
وأما قضية سعد الجبري فهي خيانة كبرى عند كل الأمم والشعوب تستحق أقسى أنواع العقوبة منذ بدء التاريخ الإنساني إلى هذا الوقت بسبب اختلاسه وعبثه بالتعيينات وأخيرًا خيانته بتسريبه أسرار الدولة للمخابرات الأجنبية وهذا باعترافه في الدعوة التي قدمها مؤخراً في (107) صفحة لاستهداف المملكة في هذا الوقت والإساءة لرموزها ومسيرتهم في الإصلاح وعلاج الفساد مما يؤكّد أن الإصلاحات الأخيرة التي قامت بها القيادة في السعودية قد أقضت مضجع الحركيين والتنظيمات السرية وماكينة الإعلام الحركي بسبب أنها كشفت مشروعاتهم الهدامة وخططهم التدميرية وخياناتهم العظمى وفي تلك الصفحات اعترف الجبري وتفاخر فيها أنه كان عميلاً وجاسوساً لاستخبارات أجنبية حددها وحدد الارتباط بالاسم وهو (جون أوين برينان) الذي كان مهندساً لفترة دعم التنظيم الإخواني في عهد أوباما أيام ما يُسمى بالربيع العربي في الخارج وفي الداخل فرض سيطرة التنظيم على مفاصل الأجهزة الحكومية كالتعليم والإعلام والشؤون الإسلامية وغيرها ولا تزال آثار ذلك الاختراق تعبث بالوطن ومؤسساته التي لم تتعاف إلا على يد الأمير محمد بن سلمان، إذ لم تسلّم منها اللوائح والمناهج والأنظمة والقرارات التي تخدم التنظيم وتحقق سياسته لتمكين أعضاء التنظيم في تلك الحقبة المرعبة، وربما كانت هناك جهات أخرى تعامل معها لم يحددها لأن من يملك الإرادة لتسريب معلومة فهو قادر على تسريبات معلومات أخرى، ومن تعامل مع جهة خارجية فهو قادر على التعامل مع جهات أجنبية أخرى، ولذلك نلحظ تسييس القضية في ماكينة التنظيم الإخواني الإعلامية مثل واشنطن بوست والجزيرة وبعض القنوات للدفاع عنه وإبرازه في صورة بريء محارب للإرهاب، فكيف يطلب حمد بن جاسم أن يغلق ملف الخيانة الوطنية، وكيف تصف تلك الماكينة الإعلامية أنه كان محارباً للإرهاب في تضليل للرأي العالمي بمعلومات يكذبها الواقع ويشهد عليها الشرفاء وخصوصاً أن العهد الذي كان فيه ملف الإرهاب بيد الجبري كانت التفجيرات في الشوارع والميادين والمساجد والتشغيب على كل مظاهر التمدن والمناسبات الوطنية والمحاربة الصريحة للوطن بكل مؤسساته عبر ركن الزاوية ولجان المناصحة وقنوات إعلامية وأنشطة ممنهجة كانت تدعم الحركيين دعماً لوجستياً، إذ أثبتت الأرقام والإحصاءات أن المفجّرين والمكفّرين والكارثيين ورجالات التنظيمات السرية المتآمرة على الوطن تدخل من باب وتخرج من باب آر ليكتشف المواطن السعودي جدلية لا تتوقف وعبثاً بمدخرات الوطن ومؤسساته لا ينتهي حتى إنه في ذلك العهد لم تسلم دول الجوار من تصدير الإرهابيين لمناطق الصراع والثورات وصار الشباب السعودي وقودها المستعر..
ربما السبب الذي وقف عليه سمو الأمير محمد بن سلمان هو أنه عالج ظاهرة الإرهاب وخطابها المتوحش من الأعلى، من الرموز، من المنظرين، من قيادات التنظيم، والذين يطالب حمد بن جاسم بإغلاق ملفهم وإخراجهم من جديد للمشهد بعد أن أدى توقيفهم إلى قطع علاقتهم بالشارع الذي كانوا يستقطبون من خلاله الشباب بينما كانت مدرسة الجبري تركِّز على أولئك الشباب وتودعهم السجون وتترك المنظرين وشيوخ الإرهاب يصولون ويجولون ويستقطبون ويجتمعون مع القذافي في خيمته المشؤومة، بل إنهم يتفاخرون بكفالتهم والشفاعة لهم وإخراجهم وإرسالهم مرة أخرى لبؤر التوتر والصراع من جديد حتى تم إحصاء ما يزيد على 750 إرهابياً في فترة وجيزة كانوا من مدرسة المناصحة...؟
نقولها بكل صدق يكشف في رحم تلك التغريدات أن أكبر تحد لنا يستعصي على التعافي في هذا العصر الذي تميز بأن الأقليات غلبت الأكثريات، وأن الصغار تطاولوا على الكبار، وأن الضحية مدانة والجلاد بريء، وأن العملة المزيّفة طردت العملة الأصيلة من السوق، وأن الطارئ والعابر حل محل المقيم والمواطن، وأن اللصوصية استحوذت على كل مصائد الشرف مما أدى إلى تحول صلة الرحم في كل الأدبيات إلى قطيعة، وافتتحت مقدمات الكتب بعبارات تشرعن التآمر والمؤامرة على الوالد والأخ والابن وسحب هذا المستنقع إليه كل الدماء من العروق حتى آخر قطرة نقية، وربما كانت أكبر مفاجأة للعالم وأصدق شهادة على كل ذلك ما دار في خيمة القذافي، إذ تأكد أن ذوي القربى أصبحوا ذوي بعدى الذين باعوا الدم والرحم بزببية وحشف بال كما ذكر امرئ القيس، في صورة تاريخية أعادت للذاكرة الجمعية العربية صورة حكام الطوائف وهرطقات الشعوبيين وعصور الانحطاط الأخلاقي والتي عشناها بكامل تفاصيلها هذا العصر حتى رأينا من يُسمي الخيانة وجهات نظر ويُسمي التآمر على التراب قضايا رأي، ورأينا من يصر على إغلاق ملف المعتقلين وما هم إلا متآمرون على الوطن والشعب والدولة، يستحقون المحاكمة في كل شرائع السماء ودساتير الأرض، وليس بعيداً بعد كل ذلك المأزق الأخلاقي أن يقدس هذا الزمن بشخصياته القذافية مصطلحات الخيانة العظمى وتحل محل مصطلحات الوطنية والشرف والهوية، ويصبح كل خائن بطلاً وقدوة ويصبح كل شريف خائناً ومُداناً حتى أصبحنا ننتظر الساعة بعد أن ضياع الأمانة وشرعنة التخوين، لأنه في الوقت الذي تنبذ فيه كل الأدبيات الإنسانية الخيانة بالقائد والغدر بالوطن نجد من يفلسف السوء الأخلاقي وفقد الضمير الإنساني والحرمان من المسؤولية، وتدل قصة نابليون مع الجاسوس عام 1809م حينما اجتاح أوروبا على اتفاق الجميع من النفور من الخيانة وشخصياتها، فحينما هزمته الجيوش النمساوية في معركة أسبرن، شعر نابليون بالانكسار نتيجة خسارته وطلب من ضباطه أن تكون المعركة استخبارية وبدأ ضباطه يبحثون عن جاسوس نمساوي يساعدهم على الدخول إلى النمسا من خلال نقطه ضعف في الجيش النمساوي. فعثروا على رجل نمساوي كان يعمل مهرباً بين الحدود واتفقوا معه على مبلغ من المال إذا هم استفادوا من معلوماته فدلهم الخائن على منطقة جبلية يوجد فيها جيش نمساوي قديم لكون المنطقة شبه مستعصية، وبالفعل تمكَّن الجيش الفرنسي من اقتحاالمنطقة في معركة بمارخ فيلد في نفس العام وبعد أن استقر الوضع لفرنسا جاء الخائن النمساوي لمقابلة نابليون بونابرت فأدخلوه على الإمبراطور، وما إن رأى نابليون ذلك الجاسوس النمساوي حتى رمى له بقبضة من النقود في صرة على الأرض ليأخذها ثمن خيانته وجزاء أتعابه فقال الجاسوس سيدي العظيم يشرّفني أن أصافح قائداً عظيماً مثلك.. فرد عليه نابليون: أما أنا فلا يشرّفني أن أصافح خائناً لوطنه مثلك. وكان كبار القادة جالسين عنده وتعجبوا من تعامل نابليون مع الجاسوس على الرغم من أهمية الأخبار التي نقلها لهم وكانت سبباً في انتصارهم، فقال: «مَثلُ الخائن لوطنه كمثل السارق من مال أبيه ليطعم اللصوص فلا أبوه يسامحه ولا اللصوص تشكره»، فليدرك الجبري بعد كل ذلك العز الذي منحه إياه الوطن أنهم لن يصافحوه وسينظرون له مثل سارق وضيع...
وفي الوقت الذي كنا بحاجة إلى ظاهرة السقائين التي تحدث عنها سقراط وكانت مهمتهم التاريخية بعث الجواهر الإنسانية من تحت الرماد والتخفيف ما أمكن من الشقاء الإنساني والتصحر الأخلاقي نبتلى بشخصيات سياسية وقنوات إعلامية ووسائل اتصال تهدف إلى إكمال الناقص وتعميم العطش وتغييب القيم من حياة الناس في مديونيات تاريخية سيدفعها الجميع، وعلى رأسهم حمد بن جاسم الذي يغرّد بأنه ليس خائفاً على السعودية فحسب، بل خائف على المنطقة كلها، ولم يعد مثل هذه الفذلكات الإعلامية تخفى على الأطفال الذين أصبحوا أكثر وعياً بما يرونه من تطبيقات وأكبر استيعاباً لسياسة الإعلام الرخيص الأشبه بمريض فقد قدرته على الاستجابة للعلاج، فحاجته للتصحيح العاجلة ومشرط الجراح أولى من العلاج بالإسبرين والبنادول، لأن الجسد العربي لم يعد قادراً على التفاعل مع المواد الكيميائية المشعة والتخدير الطارئ وفائض النصائح الخارجة عن رأسه ومتنه وهوامشه على السواء...
كيف نصدق ذلك الخوف المزعوم ومن يراقب أداء قناة الجزيرة في قطر يدرك أن حمد بن جاسم لم يكن صادقاً في شعوره الأخوي، إذ الخطاب الإعلامي الصادر من تلك القناة مملوء بالعهر الإعلامي المتشنج بالتزوير والكذب والبعيد عن المهنية الإعلامية وشرف الإعلام الهادف والشعور الأخوي النبيل، والكل يرى احترافيتها بتوظيف كل القضايا الوطنية بالتعاون مع ماكينة تنظيم الإخوان المسلمين الإعلامية التي تفتقد للسياسة الإعلامية الرصينة توظيفاً غير نزيه تماماً يسعى عبر سوكيولوجية الجماهير إلى استعداء مؤسسات العالم والاستقواء بخطاب معدوم الحياء والإنسانية، ونسي أن كل دولة في هذا العالم ابتداءً من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا ومروراً ببريطانيا وفرنسا وألمانيا وانتهاءً بقطر لها الحق أن تتحفظ على كل من يخترق أمنها الوطني والإقليمي والقومي ويعرض مصالحها الإستراتيجية للخطر، ومن أجل ذلك اعتبرت كل الدساتير والتشريعات والسلطات القضائية أن من يقوم بذلك خائن خيانة عظمى تستوجب أقسى العقوبات فضلاً عن المحاكمة والسؤال... والله من وراء القصد.