مرام فهد المشاري
أنا أيضاً نظرت للسعادة بتلك النظرة التي ينظر بها الجميع على أنها الأمور الإيجابية المثالية التي تجعلك تبالغ بالتركيز على كونك رقم واحد دائماً، الشخص الذكي والمنجز وصاحب البديهة وصديق الدهشة، ممارس فنون التأثير والمحبوب والأكثر شعبية، المتمتع بجسم صحي والمتأنق برائحته الزكية، لكن في حقيقة الأمر أن كل تلك الأمور الكثيرة قد تُحملك عبء تحقيقها للحد الذي يفقدك الثقة بنفسك ويجعلك تدرك حتماً النقص فيك دون أن تنظر بعين صافية لنقاط قوتك وما امتلكته حقاً، هذا ما توصلت إليه حين وقع كتاب «فن اللامبالاة» بين يدي، قد يوحي لك العنوان في الوهلة الأولى أنه سيلقنك استراتيجيات تجعلك تتوقف عن الاكتراث بما يدور حولك، وهذا في الحقيقة ما أخرني عن قراءته، لكنه في حقيقة الأمر يعلمك كيف تكترث لنفسك وتوقف البحث عن السعادة والسلام النفسي في أي بقعة عدا داخلك.. هناك حيث الموطن الحقيقي لأعمق معاني الراحة، وأن تتوقف عن الجري المميت حول حلقة مفخخة يومية تحاول من خلالها جعل يومك مثالياً لكن بطريقة جحيمية، لأنك إن لم تتوقف عن كونك راغباً بالسيطرة على مجريات الأمور كلها لتكون في قمة روعتها، حتماً ستكون هدفاً مباشراً لفوهة الضغط النفسي الذي يلتهمك دون أن تشعر به، يقول الفيلسوف ألبير «لن تكون سعيداً أبداً إذا واصلت البحث عمّا تتكون السعادة منه، ولن تعيش حياتك أبداً إذا كنت من الباحثين عن معنى الحياة»، دعني أخبرك ببساطة بأنك ستكون كالشجرة التي تبحث عن القوة والبقاء لكنها توجه جذورها فوق سطح التربة؛ فلن تفلح أبداً ولو امتدّت آلاف الأمتار، كل تلك الأمور تجدها بالداخل فقط، لكن الجزء الصعب أن تؤمن بذلك!، كونك مدركاً لما تفتقر إليه ليس أمراً سيئاً، كونك على علم بالنقص لديك في الحقيقة هو أمر جيد، وأن تعاني من ذلك كله فتلك الغاية الفعالة التي تدفعك للتغيّر الإيجابي وللتطور المثمر وبذل المزيد من الجهد لا للنحيب والحزن وانتقاص الذات أبداً، يقول تعالى (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم). كرهنا للتراجع وللفشل وللألم هو ما ولّد ثورة الانفجار المعرفي التي ننعم بها، لولا تلك الرغبة الملحة التي دفعتنا لإحداث تغيير يجعلنا ننتصر على ما نعاني منه لكنا نقبع في العصور المظلمة حتى الآن، دعني أخبرك ما أشعر به بصدق بأن السعادة تأتي من خلال الإنجاز الذي يعكس صورة واحدة من ألبوم روحك، إنجازاتك بمجالاتها ومستوياتها كافة هي ما تعزلديك التقدير العميق لذاتك، والذي بدوره يمدك بالارتياح الغامر والهدوء الصادق، وقبل كل ذلك تأكد بأنك أنت من يختار الآلام التي يريدها في حياته كي يسعى لإبطالها، تقع مسؤولية اختيار ما تكافح من أجله عليك أنت، من النعمة أن تلتمس الحذر قبل أن تكافح في سبيل الأشياء المغشوشة كي لا تكمل حياتك وأنت تصلح الأعطاب تأكد من جودة خياراتك و لما يستحق أن تبذل عمرك من أجله، نحن دائماً نملك حق الاختيار أمام كل أمر وكل تجربة بالاستجابة أو الرفض ونتحمل مسؤولية أياً منهما، ستقنعك الحياة بأنك وحدك من يستطيع أن يجزم بما تريده أو لا، لا وجود للصدف التي يحبها المنسلخون من مسؤولياتهم، والحظ مجرد ورقة جوكر لن تتوافر دائماً ولن تنقذك في كل الجولات، عليك أن تعتزم التجربة وتخوض غمار المغامرة كي تستحق الفوز، ولا تكن على يقين بفوزك لأن اليقين البحت مشنقة، أن تؤمن بقدراتك لحد عدم تقبلك للفشل مأساة، وأن تؤمن بقبولك لحد عدم الرفض معضلة، لا أحد يملك الحق بأن يسلب منك ثقتك، لكني أتحدث عن تحويل هذه الثقة لبيدق يقتلك قبل أن يقتل أي شخص قد يتسبب بهزيمتك في منافسة شريفة، الشخص العاقل يوازن كفتيه بحيث يضع نفسه وإيمانه بها على يمينه، ويدع الكف الأخرى تختار بعدل أولئك الأشخاص المتفوقين والمتميزين عليه لا ليطبق عليهم! بل ليسعى باستمرار لمجاراتهم والتغلب عليهم بالجهد والعلم والعمل لا باليقين المتصلب الهش، بل بالمعرفة الحقيقية للنفس وقدراتها ومصادر قوتها وثغرات ضعفها، ذاك ما يعمّق الكيفية لجعلها ممنوعة من الاختراق ومحصنة ضد الإحباط والاكتئاب، النفوس الصلبة تعرف ماهيتها دون أغطية الشهرة والأقنعة المزيفة كمادة خام تحتفظ بقيمتها الحقيقية أينما كانت وسط متحف أو تحت الأنقاض.