د.شريف بن محمد الأتربي
جاءت جائحة كورونا -عافانا الله وإياكم منها- لتلقي بظلالها على جميع مناشط الحياة وتحدث فارقاً سيظل التاريخ محتفظاً به للأجيال القادمة، وسنرويه نحن أيضاً لأبنائنا وأحفادنا بل وسنظل نتحدث عنه للمقربين منا وفي كل مجالسنا.
وفي خضم هذه الجائحة ظهرت العديد من المصطلحات الجديدة التي ارتبطت بحالة الحياة الاجتماعية التي عاشتها البشرية جمعاء، ولا تزال أغلب المجتمعات تعاني منها؛ وكان من أبرزها مصطلح الجيش الأبيض للدلالة على الطواقم الطبية.
وكان للتعليم نصيب كبير من المصطلحات التي ارتبطت بتعليق الدراسة وتطبيق نظام التعلم عن بعد ضمن إطار التعليم الإلكتروني في أغلب دول العالم، فازدهر مصطلح التعلم عن بعد، والتعليم الإلكتروني، وغيرها. ولعل من أهم المصطلحات التي تم تداولها وبكثرة خلال هذه الفترة: مصطلح المعلم الرقمي.
وللوهلة الأولى يتخيل بعضهم أن المعلم الرقمي هو أحد المنتجات الألية مثل الروبوت «صوفيا» أو برنامج أو تطبيق يمكن للمتعلمين من خلاله الحصول على المعرفة والمهارات اللازمة لإنجاح عملية التعلم وتحقيق أهدافها دون تدخل من العنصر البشري؛ وهو ما يتنافى مع مدلول المصطلح حسب تفسير خبراء التربية له.
ويشير هذا المصطلح إلى الشخص الذي يملك القدرة على استخدام الأدوات والمهارات اللازمة للعمل والعيش في مجتمع رقمي، كما يمكنه أيضاً أن يقدم إرشادات للطلاب في نفس المهارات.
وحتى أصل إلى لب المقال أبدأ أولاً في استعراض مفهوم التعليم، حيث يقصد بالتعليم Education: أنه عملية منظمة يتم من خلالها إكساب المتعلم الأسس البنائية العامة للمعرفة بطريقة مقصودة ومنظمة ومحددة الأهداف. وهذا يعني أن التعليم في حد ذاته عملية موجهة ومقصودة، ولابد أن يكون لها أثر، وغالباً ما يتضح هذا الأثر على مدار سنوات متعددة، وكلما تعددت السنوات تعددت الخبرات وزادت المعارف وتم ثَقل التعليم حتى تصبح جميع تصرفات الفرد مبنية على أثر هذا التعلم.
ولعل أول عملية تعلم تمت في تاريخ البشرية حين تولى الله سبحانه وتعالى تعليم آدم عليه السلام الأسماء وبها ميزة عن باقي مخلوقاته ومنهم الملائكة وبهذا شرفت مهنة التعليم بتولي الله جل جلاله تعليم أول خلقه. قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} البقرة:31.
وتعليم الله سبحانه وتعالى لآدم عليه السلام الأسماء لم يكن مقتصراً على الحالة التي ذكر فيها؛ أي لم يكن مرتبطاً فقط بتمييزه عن سائر المخلوقات الأخرى، أو لإثبات عدم معرفتهم بالغيب؛ ولكنه تعليم بهدف نقل المعرفة حيث نقلها آدم عليه السلام إلى أبنائه ومنهم إلى البشرية جمعاء.
وخلال الفترات الأولى من القرن العشرين بدأت مدارس تعليم المعلمين في الانتشار سواء في أوروبا أو أمريكا وكان الهدف من هذه المدارس هو تعليم المعرفة للمعلمين لينقلوها بدورهم إلى الطلاب، وهو ما يمثل تماماً أسلوب التعليم التلقيني الذي لا تزال كثير من الأنظمة التعليمية في العالم سواء الغربي أو العربي تعاني منه؛ بل وتحاول بكل الوسائل والطرق التغلب على نمطيته سواء باستخدام التقنيات أو بفرد مساحة أكبر للطلبة للمشاركة في العملية التعليمية.
أما المعلم الرقمي الذي أصبح غاية كل المعلمين؛ فقد تسببت جائحة كورونا في تعليق عمليات الدراسة لتجد كثير من الدول أن الحل الأمثل لوقف انتشار الفيروس هو التوجه نحو التعلم عن بعد واستثمار أدوات التعلم الإلكتروني المتاحة، وفي خضم ذلك اكتشفت العديد من الهيئات والمؤسسات التعليمية عدم قدرة معلميها على تطبيق هذا النظام والاستفادة مما توفره أدواته في استكمال العملية التعليمية وتحقيق أهدافها؛ فبدأ مصطلح المعلم الرقمي في الظهور وبشدة.
وسواء كنت متفقاً مع المصطلح أو مختلفاً معه من ناحية التعبير عن الوظيفة وتبيان أهمية الدور الذي يلعبه المعلم في تاريخ البشرية جمعاء وليس على مستوى مجتمعه فقط؛ أجد أن المعلم الرقمي ليس بالضرورة أن يكون منتجاً، أي أنه حتى لو امتلك هذه المهارات الرقمية والقدرة على التعامل مع الأدوات باحترافية عالية وكفاءة منقطعة النظير، يظل العامل البشري مسيطراً على تحقيق أهداف التعلم حتى ولو بنسبة بسيطة، وحتى في حالات التعلم عن بعد، أو التعلم الرقمي.
إن امتلاك المعلم للمهارات الرقمية فقط ليس كافياً لتحقيق الهدف من عملية التعلم بل ينبغي على القائمين على هذه العملية والمسؤولين عن نظم التعليم العمل على الاستفادة من المهارات الرقمية المتوافرة لدى المعلمين، وتلك التي يتم تدريبهم عليها، وتطوير محتويات المقررات الدراسية لتتواءم مع نظام التعليم الإلكتروني وتصبح أكثر تفاعلاً مع الطلبة، وتلبي احتياجاتهم البحثية والمعرفية، وشغف الحصول على المعرفة الذي أصبح كثير من أبنائنا عليه الآن نتيجة تطور وسائل الاتصال وسهولة استخدام الشبكة العنكبوتية وقواعد البيانات، وكذلك العمل على استخدام إستراتيجيات التعلم الحديثة التي من شأنها مساعدة المعلم الرقمي كما ساعدت المعلم التقليدي في تطوير مهارات الطلبة ومعارفه ورفع نسبة مشاركتهم في العملية التعليمية، سواء أكان التعلم متزامناً أو غير متزامن، وبحيث يتم نقل المعارف والمهارات للطلبة، والتأكد من قدرتهم على الاستفادة منها وتطبيقها في حياتهم الخاصة والعملية وهذا هو هدف التعليم.