د.فارس بن متعب المشرافي
هذا المقال هو امتداد للمقال الأول الذي بينت فيه بإيجاز أن أقسام التاريخ بحاجة إلى تطوير مناهجها ومقرراتها حتى تتعافى من الجمود التي هي غارقة فيه منذ زمن ليس بقريب. إن تطوير أقسام التاريخ من حيث تناولها للتاريخ كتخصص ومهنة، أزعم ذلك، سوف يفتح ميادين لطلاب وطالبات التاريخ ليس فقط في سوق العمل وإنما في مجالات البحث وجودته. ولكن هنا في هذا المقال والمقالات التالية، سأركز على كيف ستساهم أقسام التاريخ في سد حاجة سوق العمل.
ابتداءً، لابد أن نعي جيداً أن الدراسات الأكاديمية على وجه العموم، والدراسات الإنسانية على وجه الخصوص أصبحت تنحى إلى الاتجاه التفاعلي، أي إلى تفاعل التخصصات فيما بينها، هناك من يسميها الدراسات البينية، وبعضهم الآخر يسميها منهج تعدد التخصصات interdisciplinary approach. إذا سلمنا بهذا القدر، وهو لابد منه لمنطقيته وواقعيته، فإن التفاعل بين التخصصات هو الجزء الأساسي لحل مشاكل أقسام التاريخ على وجه العموم، في رأي. وهذا يعني أن التفاعل بين التخصصات، لا يقتصر فقط فيما بين التخصصات الإنسانية فقط، ولكن يمتد إلى التفاعل مع التخصصات العلمية الأخرى كالحاسب الآلي، العلوم والطب، والهندسة المعمارية وغيرها. سنتعرف أكثر على هذه التفاعلات من خلال التعرف على طبيعة المهنة التي ربما يشغلها المؤرخ في سوق العمل.
التاريخ ودراسات المتاحف History and Museum Studies:
تعتبر المتاحف من أقرب الأماكن لدى المؤرخ، لكونها الحافظة لبعض المصادر التاريخية. وبالرغم من هذا، أعلم تماماً قبل الشروع في الحديث عن هذا الموضوع، أنه ليس لدينا في جامعاتنا، حسب علمي حتى الآن، برامج سواء على مستوى درجة البكالوريوس أو الدراسات العليا بشكل مستقل متخصصة في دراسات المتاحف تمنح درجات علمية في هذا التخصص، ولكن لإيماني بأهمية تفاعل التاريخ كتخصص مع دراسات المتاحف، سأتحدث عن هذا الموضوع، آملاً في أن تتعاون الأقسام المعنية في العمل على تصميم برنامج في هذا الحقل لمنح درجة الماجستير على الأقل، ولعل أقرب تخصصين لتصميم هذا البرنامج هما التاريخ والآثار مع مساعدة بعض التخصصات كالحاسب الآلي كما سنرى.
أصبحت المتاحف اليوم أكثر أهمية من أي وقت مضى، حيث أصبح المتحف مسؤولاً عن الإشراف الثقافي ويعمل كمكان تتجمع فيه إرث المجتمعات وتاريخها، وأصبح بذلك مساحة للتأمل والتفكير والتفاعل والمشاركة والتعلم، سواء عبر موقعه الطبيعي أو الإلكتروني، بل إن بعض المتخصصين يرون أن المتحف أصبح يلعب دوراً مؤثراً في التغيير الاجتماعي.
الحقيقة التي لا تخفى على المتخصصين، هي أن التاريخ ودراسات المتاحف تجمع بين التجربة العملية لإدارة المتاحف والتدريب الأكاديمي للباحث التاريخي، بالتالي يساعد الجمع بين هذين التخصصين على اكتساب فهم عميق في كيف شكلت الآثار والمصادر التاريخية، المحفوظة في المتحف، المجتمعات والثقافات والاقتصاد والسياسة والفنون المعاصرة. وهذا يؤكد لنا أن الدراسة البينية بين التاريخ والمتاحف من بين أهم الدراسات التي تساهم في تحقيق هدف الرؤية في خلق مجتمع حيوي جذوره راسخة. نصت الرؤية في هذا السياق على العمل على ترميم وإحياء مواقع التراث الوطني العربي والإسلامي من خلال تشييد أكبر متحف إسلامي في العالم وتسجيله على الصعيد الدولي وتسهيل الوصول إليه. ومن المعروف أن الغاية من إحياء التراث هو التعرف على الجذور التاريخية لثقافة وحضارة الوطن، وبالتالي هو يصب في تعزيز الهوية الوطنية عبر بعدها الثقافي والتاريخي.
السؤال هنا كيف يكون للمؤرخ دور فعال في هذا المجال؟ يبرز دور المؤرخ عبر علاقته بالمتحف، فللمؤرخ عدة مهام يقوم بها داخل المتحف، ولعل أهمها ما هو أكاديمي وتوعوي، والتي تكون من خلال تقديم الأبحاث التاريخية عن المقتنيات والمصادر الأخرى المحفوظة داخل المتحف. كذلك يقوم المؤرخ بمهمة تعليمية المهمة داخل المتحف، تبرز من خلال تصميم مقررات رقمية ومصادر تعلم متعلقة بمادة التاريخ للتعليم ما - قبل - الجامعي أو التعليمي الجامعي. من مهام المؤرخ أيضاً، إجراء التاريخ الشفوي وحفظه في المتحف كمصدر أولي للمعلومة التاريخية، إلى جانب فهرسة المصادر والمراجع في ارشيف المتحف. إن العلاقة بين المؤرخ والمتحف دُرست من قبل كثير من المنظمات الأكاديمية، من عدة جوانب، فعلى سبيل المثال، تناقش الجمعية التاريخية الأمريكية في موقعها الإلكتروني دور المؤرخ في المتحف. تشير الجمعية إلى أن المتاحف هي لحفظ الآثار التاريخية وإدارتها، وإجراء الأبحاث بخصوص هذه الآثار لإيجاد تفسيرات لوجودها سابقاً، وكذلك تفسير عدم استمرارها في الوقت الحالي، وما هي البدائل التي حلت محل هذه الآثار؟ يجيب المؤرخ هنا ليس فقط على المواد المصنوعة منها هذه الآثار، وإنما ينبغي على المؤرخ الإجابة كذلك عن متى وأين تم صنعها؟ من صنعها؟ ماذا يمكن أن تخبرنا هذه الآثار عن ثقافة مختلفة عن ثقافتنا اليوم؟ كيف يكون معرفة هذا الاختلاف مفيدا لنا في الوقت الحاضر؟ كيف نفسر أن هذه الآثار هي امتداد لثقافة معاصرة؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة هي من مهمة المؤرخ الأثري، ولاشك أن عمل المؤرخ في المتحف سيساعده في تعزيز دور المتحف الاجتماعي، المفترض أن يكون فاعلاً، في رفع الوعي التاريخي وتعزيز الهوية الوطنية بين أفراد المجتمع.
في هذا الصدد، تؤكد الجمعية التاريخية على أن القيام بمهام التاريخ المحلي (الوطني) ليس فقط من خلال التمكن من إدارة الموارد الأثرية والتاريخية، بل كذلك من خلال إجراء البحوث التاريخية عليها واستنطاق هذه المصادر الصامتة للتعبير عن تاريخ المنطقة. هنا تحث الجمعية المؤرخين على ابتكار طرق للحفاظ على التاريخ الوطني في وجدان المجتمع من خلال، مثلاً، العمل مع المدارس في المناسبات الوطنية وعرض الآثار للطلاب وتقديم المعلومات التي تعزز الانتماء الوطني، تقديم عمود أسبوعي في الصحف المحلية يتحدث عن التاريخ الوطني من خلال المقتنيات الأثرية والمصادر التاريخية، كتابة أبحاث تاريخية تحاول بشكل مقنع استنطاق الآثار المحلية وذلك لكشف جوانب تاريخ المجتمع.
إن أهمية عمل المؤرخ في المتحف تستلزم ابتكار تخصص أكاديمي يؤهل المؤرخ بالقيام بهذه المهمة الوطنية. هناك جامعات عالمية مرموقة تقدم برامج ماجستير في التاريخ ودراسات المتاحف كدراسة بينية. هذه البرامج تركز على التاريخ كتخصص أساسي. في هذه البرامج يتعلم الطالب على كيف يدير المتحف، إدارياً ومالياً، وكيف يعمل فيه كباحث. تقدم تلك البرامج عدة مقررات، مثل المتحف والتعليم، فالمتحف ذا صلة بالتربية والتعليم في سياق علاقته بالمجتمع والمؤسسة التعليمية، لكونه أحد مصادر التاريخ الوطني. من بين الموضوعات التي سيتم أخذها في الاعتبار في هذا المقرر، استراتيجيات التعلم لمادة التاريخ، استخدام الوسائل الرقمية كمصادر تعلم، تصميم مقررات دراسية تخدم أقسام التاريخ والمواد الدراسية التي تتعلق بالتاريخ. وهذا المقرر يتطلب مقرر المتحف والتكنلوجيا الذي يركز على استخدم التقنيات المتقدمة في المتاحف لتصميم مواقع الويب ومشاريع الرقمنة. تقدم هذه البرامج، كذلك، مقرر المتحف والمجتمع الذي يركز على الدور الاجتماعي للمتحف في رفع الوعي والأمن القومي والانتماء الوطني لدى أفراد المجتمع، فالمتحف يعتبر اليوم من أهم الإمكانات التي تحتضن مشاركات وأنشطة أبناء الوطن التاريخية والفنية والتعليمية، بمختلف أطيافهم وانتماءاتهم الفكرية والمذهبية. ومن المقررات أيضاً، مقرر المتحف والفنون المعاصرة وهو أحد المقررات المهمة، والذي يبحث في الجوانب التاريخية والنظرية والعملية لجمع وعرض الفن المعاصر في المتاحف. هناك مقررات أخرى تتعلق بكتابة النصوص المتحفية والتراثية وتحقيق المخطوطات، جميع هذه المقررات تعزز وتطور مهارات البحث الأكاديمي لدى المؤرخ داخل المتحف. تضم تلك البرامج كذلك العديد من المقررات التي تخدم مهارات التعامل مع المتاحف وفهم أدوارها، كمقرر المتحف والقانون، المتحف والسياسة، إدارة الحفظ والتجميع، إنشاء تاريخ وطني رقمي، التحصيل والاتصال، ودراسة الإرشيف. إن عمل المؤرخ في المتحف هو عمل يحمل بين طياته دورا فعّالا في المساهمة في رفع الوعي التاريخي لدى أفراد المجتمع، كما وضحت آنفاً، ولهذا نحتاج إلى توسيع تخصص التاريخ وتفاعله مع تخصصات أخرى كعلم الآثار والحاسب الآلي، لتخريج طلاب وطالبات مؤهلين بالقيام بهذا الدور الذي تحتاجه رؤية 2030 لتحقيق بعض أهدافها الوطنية. سأتحدث في المقالات التالية عن بعض التخصصات التاريخية الأخرى، وكيف سيكن لأقسام التاريخ القدرة على تطوير مجالاتها ومقرراتها وتناولها للتاريخ وبالتالي القدرة على خلق فرص عمل لخريجيها.