ماجد عبدالرحمن التمامي
ماذا سيحدث اليوم لو جاء إليك أحد أصدقائك، وأخبرك عن رحلته الجميلة إلى بلد ما؟ ربما تقودك اللهفة إلى خوض هذه التجربة بنفسك، والسفر إلى ذلك البلد، ورؤية ما يدعوك لزيارته، كثقافة شعبه، وتراثه، وموروثه، وعاداته، وتاريخه، وحاضره، وحضارته.. فأنت اليوم تعيش في زمن ينعم البشر فيه بخدمات سياحية بالغة العناية، وشركات أخذت على عاتقها تنسيق وترتيب برامج سياحية كاملة لك، ووزارات وسفارات وهيئات حول العالم تُعنى بك أيها السائح، وتهتم بك، وتدرك أهميتك ومردودك عليها وعلى إنعاش اقتصادها، ونشر ثقافتها.
لم يولد الإنسان سائحًا، ولم يُخلق كذلك، وإنما قادته ظروف الحياة وضرورة التعايش فيها إلى الجنوح أكثر نحو السلم، والتخلص من نزعته إلى الوحشية. وقد تمكن الإنسان مع مرور الأيام من تهذيب نفسه، وتعويدها على الانفتاح على شعوب الأرض؛ فاكتسب بذلك مهارات، تنامت حتى صارت مع الأيام ركنًا أساسيًّا من اقتصاد الدول.
لو عدنا لعصور التاريخ الغابرة فلن نجد لمفهوم السياحة أثرًا هناك؛ فقد كانت الحضارة الأقوى تقتات على الحضارة الأضعف عبر غزوها، وأخذ أموالها وخيراتها ومواردها غنائم لها. وكان أهم ما يدفع الحضارة لغزو الأخرى هو امتلاك أحدهما أرضًا جميلة، وموقعًا أجمل، وبنيانًا وعمرانًا يخطف ألباب الغزاة؛ فيدفعهم ذلك إلى غزوها واحتلالها عوضًا عن زيارتها والسياحة فيها.
جاءت الأديان السماوية، ورسخت مفاهيم التعايش والتعارف بين الشعوب في أوضاع سلمية. ولعل القرآن الكريم كان أبلغهم؛ ففي ظل صراعات شعوب الأرض فيما بينهم كان القرآن الكريم يؤسس لمفاهيم انبثقت منها السياحة اليوم. فمن ذلك حث الله سبحانه لنا على أن نسير في الأرض، وننظر كيف بدأ الخلق، مرورًا بإخبارنا بأن في اختلاف ألواننا وألسنتنا آية، وأن الله خلقنا شعوبًا وقبائل لنتعارف، انتهاء بكل ما يؤكد أن الله ترك مساكن الأقوام البائدة آية لنا {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ}، وليس ذلك إلا لننظر إليها ونتبصر بها فهل من سائح أو مدكر؟
ولأجل ذلك سارت الشعوب في الأرض، وبرز في كل حضارة رحالة يجوب الأمصار والأوطان، ويكتب عما يراه في شعوبها وأرضها انطلاقًا من المؤرخ الإغريقي الكبير (هيردوت) الذي نقل للناس ما كان يراه في مصر، وما بين رحلات ثيودور الصقلي وأوصافه البديعة، وكذلك أسماء عربية مثل ابن بطوطة الذي جاب الأرض شرقًا وغربًا، والإدريسي الذي سبق العالم في رسم خريطة العالم، وابن خلدون الذي أسس علم الاجتماع، وأشعل النفوس حماسة لفهم الشعوب والتعايش معها، والسفر للتبحر والتبصر في أرض الله، وابن مسعود في كتابه الشيق (مروج الذهب) الذي كان نواة ما يعرف اليوم بأدب الرحلات. وقد وجد الناس في كتابة هؤلاء وما يُروى عنهم سببًا كافيًا لخوض غمار السفر والسير في الأرض.
واليوم نعيش في مملكتنا الحبيبة ضمن رؤية هادفة وحالمة بقيادة عرابها سمو سيدي ولي العهد، التي كان أحد أهم مرتكزاتها هو الالتفات إلى عمقنا الحضاري والسياحي، وتعزيز هوية وثقافة السعودية والسياحة فيها، ولفت أنظار العالم إليها للوصول إلى ما يقودنا - بإذن الله - إلى تحقيق أهداف رؤيتنا 2030 من وطن طموح، واقتصاد حيوي، ومجتمع مزدهر.
ففي ظل هذه الرؤية الطموحة تم تدشين التأشيرة السياحية لاستقبال شعوب العالم، وفي ظلها أُنشئت أول وزارة للسياحة في المملكة بعد أن كانت سابقًا هيئة ضمن نشاطات محدودة، وها هي قد تطورت اليوم، وأصبحت وزارة لتصنع مفهومًا مغايرًا للسياحة السعودية. كما تسعى وزارة السياحة لاستكمال مهمتها نحو تحويل السياحة إلى قطاع اقتصادي، يسهم بفاعلية متزايدة في الناتج القومي الإجمالي، ودعم الاقتصاد الوطني، بعائدات تصل إلى 10 %، وتوفير ما يصل إلى 1.6 مليون وظيفة في عام 2030. وفي ظل رؤيتنا أيضًا وجدنا الاهتمام الكبير في كل عوامل جلب السياح من دول العالم من دعم واضح لقطاع الترفيه ومواسم السعودية، وإقامة العروض والاحتفالات، وكذلك التركيز بشكل كبير على السياحة التاريخية عبر إبراز إرثنا الحضاري كما يحدث في العلا وما يصاحبها من شتاء طنطورة، وتدشين هيئة خاصة تُعنى بالدرعية القديمة، وإطلاق حملات تحمل عنوان (روح السعودية) لأجل التركيز على السياحة الداخلية التي لمسنا انتعاشًا كبيرًا لها مؤخرًا نظير ما حصل من تهافت كبير للناس نحو زيارة جنوب المملكة للتنعم بالطقس الماطر البارد، أو الذهاب إلى شمال المملكة للاستجمام في شواطئها.
لم يكن هذا الاهتمام الكبير بقطاع السياحة في داخل المملكة أو حتى خارجها في دول العالم لو لم يكن للسياحة فوائد حقيقية. لا أعني هنا الفوائد الخمسة التي قال عنها الإمام الشافعي قديمًا أبياته الشهيرة:
تغرَّب عن الأوطان في طلب العُلا
وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفريج همٍّ واكتساب معيشة
وعلم، وآداب، وصحبة ماجد
وإنما أضيف على الشافعي -رحمه الله- ما يعود بالفوائد الجمة على اقتصاد ونهضة الدول، وليس على السائح وحده فحسب.
إذ إن صناعة السياحة تمثل 10.4 % من إجمالي الناتج المحلي في العالم؛ وهذا يجعلها واحدة من أكبر القطاعات الاقتصادية. فبفضل السياحة وازدهارها يتم توظيف 319 مليون شخص، ومن المتوقع أن يصل هذا الرقم إلى 421 مليونًا بحلول عام 2029م. ولا يفوت أن نذكر أن قطاع السفر والسياحة قد قام في عام 2019م فقط بتوظيف ما يقارب 119 مليون شخص بشكل مباشر، ودعم 313 مليون وظيفة؛ وهو ما يؤكد أن السياحة ليست محركًا اقتصاديًّا متناميًا فحسب، بل هي صناعة من شأنها تطوير الموارد البشرية، وخلق فرص عمل عظيمة.