اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
المرء بأصغرَيْه (قلبه ولسانه)؛ إذ إن صلاح هذين العضوين يؤدي إلى صلاح بقية الأعضاء. والكلام الذي ينطق به اللسان عندما يخرج من القلب الصالح خليقٌ به أن يجلب المنفعة، ويدفع المضرة؛ بفضل اتباع الهدى، والابتعاد عن الردى، مع الأخذ في الحسبان ضرورة الإيمان بالهدف، وخلق الدافع إليه دون الإخلال بالالتزام بالوسطية والاعتدال، انطلاقًا من أن تحفُّظ القلب فوق كل تحفُّظ. كما أنه على العكس من مقاصد الخير؛ فإن القلب الفاسد تصدر عنه مقاصد فاسدة، تنعكس على اللسان الذي يقوم بترجمتها على هيئة تصرفات قولية، وممارسات فعلية، يترتب عليها أضرار جسيمة، وعواقب وخيمة. وقد قيل: من فيض القلب ينطق اللسان، وكما قال الشاعر:
وإن لسان المرء مفتاح قلبه
إذا هو أبدى ما يجن من الفم
وصلاح عمل الإنسان يعتمد على صلاح سريرته، وقيامه بحراسة قلبه أثناء حركته وسكونه؛ لأن أغلب ما يتعرض له الإنسان من متاعب الدنيا المثبطة للنشاط، والجالبة للإحباط، تكون بسبب فساد القلب، وعجزه عن القيام بوظائفه نتيجة لطغيان هذا الفساد على إرادة العقل، وتعطيل مفعولها؛ وبالتالي تتعطل معها العلاقة الإيجابية بين القلب والعقل. وقد قال أحد الحكماء: إن القلوب أوعية، والعقول معادن. فما في الوعاء ينفد إذا لم يمده المعدن.
وما ينطبق على اللسان ينطبق على القلب من حيث الصلاح والفساد والطيب والخبث. وقد سُمي القلب قلبًا لتقلُّبه وتغيُّره؛ وهو ما يتطلب من العاقل أن يحتاط لنفسه تجاه هذا القلب المتقلب؛ فيسلك به طريق الصواب محافظًا على الوسطية والاعتدال، وتاركًا للنزوع والرجوع بقية من قلبه في جميع أقواله وأفعاله؛ إذ إن تقلُّب القلب ونزوعه ورجوعه وصلاحه وفساده وطيبه وخبثه.. يستدعي كل ذلك من المرء ضبط هذه المتناقضات بالتحفظ حيالها تارة، والتحكم في معطياتها وتداعياتها تارة أخرى. وقد قال أحد الحكماء: احفظ قلبك أكثر من كل محفوظ؛ فإن فيه مخارج الحياة. وقد قال الشاعر:
وما سُمي الإنسان إلا لأنسه
ولا القلب إلا أنه يتقلب
وعلى الجانب الآخر فإن العقل اسم يقع على معرفة سلوك الصواب، والعلم باجتناب الخطأ. وقد عرّفه البعض بأنه الإصابة بالظن، ومعرفة ما لم يكن بما كان. والإنسان بحكم فضيلة العقل التي يتميز بها عن غيره من الكائنات الحية يسمو بنظره إلى أعلى وفقا لمنظار عقله الذي جعله يعرف الفرق بين الخير والشر، والحق والباطل، والجميل والقبيح؛ الأمر الذي أهّله إلى أن يستحق لقب الإنسانية بفضل قدرته العقلية التي مكّنته من معرفة الحق واتباعه، والباطل واجتنابه، انطلاقًا مما يرسمه العقل الذي تأهل بموجبه إلى أن يُستخلف في الأرض، ويسمى إنسانًا لما يتمتع به من فضائل الإنسانية.
والعقل هو الذي يكمل وجود الإنسان، ويتمم نوعه، ويمنحه ذاته، ويميّزه عن غيره.. وهو غريزة في الإنسان. والتجارب والخبرات التي تغذي العقل مكتسبة مع الزمان. والكلمة التي ينطق بها اللسان هي وسيلة البيان. وصواب هذه الكلمة يعد ثمرة من ثمار العقل الذي يعقل لسان المرء عن آفاته وحصائده متبعًا الهدى، ومتجنبًا الهوى.
وتأسيسًا على ما سبق فإن اللسان مثلما يخضع لسلطان القلب فإنه يستجيب لميزان العقل؛ إذ إن اختيار الكلام وغربلته يكون من اختصاص العقل الذي بدوره يتولى المفاضلة بين كل ما يخطر في بال المتكلم من الكلام قبل أن يتكلم به اللسان؛ لأن العقل هو الذي يرشد اللسان إلى اختيار الأفضل عن طريق معرفة المتكلم ما يحتاج إليه من الكلام على ضوء إخضاع عملية الاختيار لميزان العقل على النحو الذي يقف شاهدًا على أن كلام العاقل يدل على عقله. وقد قيل: كلام المرء يبرهن أصله، ويترجم عقله، ويبيّن فضله. وقال علي بن أبي طالب: «لكل شيء صناعة، وصناعة العقل حسن الاختيار». وقيل اختيار الكاتب أو المتكلم وافد عقله، وقيل: مبلغ عقله. وكما قال الشاعر:
لسان الفتى عن عقله ترجمانه
متى زل عقل المرء زل لسانه
وسلامة الفكر من سلامة العقل. والعقل يمثل ميزانًا، يزن به الإنسان أقواله وأفعاله، إضافة إلى أنه وسيلة يهتدي بها الإنسان إلى التمييز بين الخير والشر، والحق والباطل. وإرادة العقل تغلب كل شيء ما عدا إرادة القلب؛ إذ يتولى القلب طرح الأسئلة، والعقل يقوم بالإجابة عنها. ومن الصعب قيام العقل بما هو مطلوب منه إذا ما فسد القلب. وقد قال علي بن أبي طالب: «العقول أئمة الأفكار، والأفكار أئمة القلوب، والقلوب أئمة الحواس، والحواس أئمة الأعضاء».
ورغم أهمية التوازن بين العقل والعلم والمنطق إلا أنه يتعين التمييز بين هذه الفضائل وغيرها من الفضائل التي يقابل بعضها بعضًا، وذلك فيما يتعلق بالزيادة المرغوبة وغير المرغوبة؛ إذ إنه قمين بمن يكون علمه زائدًا على عقله أن يضره عقله. ومن الزيادات غير المرغوبة زيادة العقل على الدين، وزيادة القول على الفعل، وزيادة المنطق على العلم، وزيادة الأدب على العقل. وقد ذُكرت بلاغة أحدهم عند علي بن عبدالله بن عباس فقال: «إني لأكره أن يكون مقدار لسان الرجل فاضلاً على مقدار علمه، كما أكره أن يكون مقدار علمه فاضلاً على مقدار عقله». وقد قيل لأحد الحكماء: متى يكون الأدب شرًّا من عدمه؟ فقال: إذا كَثُر أدب الرجل ونقص عقله.