د. محمد عبدالله العوين
ليس ثمة تفسير مقنع لرواج جنس من أجناس الأدب في فترة زمنية معينة تطول أو تقصر ثم يبدأ ذلك الاهتمام يتضاءل ليبرز جنس آخر يزاحم الأول وقد يتجاوزه ليكون في مقدمة الجذب وإقبال الكتاب عليه واهتمام المتلقين به، فمن كان يظن أن الشعر سيتزحزح عن مكانه في القمة لتنافسه أجناس نثرية عدة؟! كان الأديب في مطلع عصر النهضة الأدبية الحديثة هو الشاعر، فإذا كان لا يستطيع قول الشعر لم يعد أديبا، ولذلك أكره أدباء كثيرون أنفسهم على قول الشعر وهم ليسوا شعراء ثم تخلوا عنه بعد أن أثبتوا مهارتهم العالية في كتابة النثر الأدبي المتفوق؛ ومنهم على سبيل المثال الدكتور طه حسين وحمد الجاسر.
كان الشعر في القمة، ثم نافسه فنُ المقال الأدبي، ثم نافس المقالَ فنُ القصة والرواية، وسادت القصة القصيرة زمنا ثم تفردت الرواية بفضاء النشر وإقبال الكتاب عليها بدءاً من عام 1414هـ حينما فتح هذا الباب على مصراعيه د.غازي القصيبي بإصدار روايته «شقة الحرية» ولم يعرف قبلها إلا بالشعر، وكأنه قال لمن كان يجد في نفسه الرغبة كامنة لكتابة الرواية أو السيرة الذاتية تحت غطاء الخيال الروائي أن هلموا إلى اقتحام هذا العالم الخصب الثري الذي سيمنحكم حرية كبيرة في التعبير عن ذواتكم لا تجدونها في الشعر وهو فن عاطفي رمزي ذاتي مجنح، ولا في المقال الأدبي وهو لون من الكتابة المكشوفة في الغالب التي لن تستطيعوا معها التخفي والتقنع خلف الخيال والشخصيات المستعارة أبطالا للرواية، وهم في حقيقة الأمر أنتم وأصحابكم ومن خضتم معهم صراعات وتقلبات الحياة وأمواجها العاتية.
وفوجئ القراء والدارسون بسيل منهمر من الروايات المختلفة في بنياتها الفنية وأساليب كتابتها ومهارات كتابها الذين لم يعرف عنهم من قبل كتابة القصة والرواية، حتى أصبحت الرواية الفن الأول الرائج في دور النشر ومعارض الكتاب، كتبها الطبيب والشاعر والمقالي والباحث، بحيث قارب عدد ما نشر منذ صدرت شقة الحرية باعتبارها استهلالاً للطفرة الروائية إلى الآن ألف رواية، فيها الغث والسمين والضعيف المتهالك والمتفوق المبدع، ودخل عالم الرواية مبتدئات ومبتدئون خلبت ألبابهم الأضواء الساطعة التي يحظى بها الروائيون في معارض الكتب حين تبرز أسماؤهم على «البنرات» الكبيرة بخطوط عريضة مميزة فوق صورهم الملونة المفلترة بجانب أغلفة الروايات الجديدة الصادرة عن دور النشر، وإلى جانب هذه الدعاية التي يتكفل بها الناشرون يجد الروائيون المبدع منهم والمحاول لذة لا تعادلها لذة في التربع على منصة التوقيع في معارض الكتاب واسمه يترنم به مذيع المعرض فيتردد صداه بين جنباته كأنه نغم، وكاميرات القنوات ومايكرفونات الإذاعة تتزاحم على طاولته؛ ألا يغري ذلك كله من يملك موهبة كتابة الرواية ومن لا يملكها على حد سواء على اقتحام عالمها أحسن أو أساء أبدع أو أخفق؟!
وكما قلت إن الأجناس الأدبية تتبدل المواقع حسب متغيرات الحياة ومستجداتها؛ فجأة تنتقل تلك الأضواء من عالم الرواية الواسع العريض إلى فن كتابة السيرة الذاتية ... يتبع