تستخدم معظم البحوث العلمية، وبالأخص العلوم الطبية، التحليل الإحصائي كجزء أساسي في أحد مراحل البحث، وللأسف تشير العديد من الدراسات إلى تزايد وتيرة الأخطاء الإحصائية في بحوث العلوم الطبية والبيولوجية المنشورة، في كل مراحل العملية الإحصائية؛ ولا تقتصر الأخطاء على البحوث المنشورة في المجلات ذات التصنيف المنخفض والمتوسط بل إن ذلك يشمل أفضل المجلات العالمية؛ ولهذا تبعات خطيرة جداً، حيث إنه إضافة إلى هدر الوقت والجهد والمال، فإن هذه الأخطاء لا شك أنه سينتج عنها توصيات وقرارات واستنتاجات طبية خاطئة. وخلال جائحة كورونا ظهر العديد من الأبحاث التي تتنبأ بأعداد المصابين في المملكة، وكان الكثير منها يفتقد المعايير العلمية الإحصائية للتنبؤ.
هذا المقال يناقش ويسلط الضوء على المشكلة ويسرد بعض الدراسات التي راجعت العمل الإحصائي في بعض الأبحاث المنشورة، ونقترح بعض الحلول الأولية لعلاج ذلك أو التقليل من حجم الأخطاء، مع الأخذ في الاعتبار الحاجة إلى أن مزيدًا من العمل العلمي التعاوني المشترك المنظم.
ومن أكثر الأخطاء الإحصائية شيوعاً في البحوث الطبية أخطاء تتعلق: بطرق اختيار العينات وجمع وعرض وتلخيص البيانات وتصميم الاستبيانات وتحليل البيانات وإجراء المقارنات واستخدام طرق إحصائية تفترض طبيعية البيانات لبيانات لا تتوزع طبيعياً، كما تشمل الأخطاء تفسير النتائج ووضع التوصيات، وناقش Strask (2007) العديد من الأخطاء الإحصائية الممكنة في البحوث الطبية.
قدر McGuigan (1995) أن أكثر من 40 % من مجموع 164 بحثاً نشرت في المجلة البريطانية للطب النفسي تحتوي على أخطاء إحصائية. ويشير Wiles and Bishop (2013)، في بحث منشور عن الأخطاء الإحصائية الشائعة، إلى أنه على الأقل نصف الأبحاث العلمية المنشورة في مجال البيولوجي والعلوم الطبية والتي استخدمت التحليل الإحصائي تحوي العديد من الإجراءات الخاطئة سواءً في جمع البيانات أو عرضها أو تحليلها بطريقة غير صحيحة أو غير ملائمة، أيضاً وجد Gore et al.(1977) أن 52 % من الأبحاث المشورة في المجلة الطبية البريطانية (British Medical Journal) في الشهر الثالث من عام 1976 كانت تحتوي على الأقل على خطأ إحصائي واحد.
وقامت الدكتورة كارا أولسن (Cara Olsen)، بمراجعة 141 بحثاً تم نشرها في عام 2002 في مجلة العدوى والمناعة (Infection and Immunity) وخلُصت إلى أن نحو نصف هذه الأبحاث تحتوي على أخطاء في تحليل وعرض البيانات.
وفي دراسة لـ157 بحثاً منشوراً في الفترة بين عامي 2016 و2017 في عشرين مجلة مختصة في الأشعة ذات معاملات تأثير (Impact factors) مختلفة، حيث تم فحص الأبحاث إخصائي؛ وخلُصت الدراسة أن 147 بحثاً، بنسبة تتجاوز 93 %، احتوت على أخطاء إحصائية (خطأ واحد واحد على الأقل)، وكانت الأخطاء المتعلقة بتلخيص البيانات الأكثر ظهوراً يليها أخطاء متعلقة بالاختبارات الإحصائية. وكان أداء المجلات ذات معامل التأثير المرتفع لا تختلف كثيراً عن المجلات الأخرى.
نشرت مجلة Nature neuroscience في عام 2011 دراسة أخرى على البحوث المنشورة في مجال علم الأعصاب، في خمس مجلات رفيعة المستوى، وأشارت إلى أن فقط 78 بحثاً من مجموع 167 استخدمت الاختبارات الإحصائية بشكل صحيح؛ أي أن نسبة الأخطاء في الاختبارات الإحصائية تجاوزت 53 %.
ومن أهم الأسباب لهذه الأخطاء هو ضعف الجانب الإحصائي، ليس لدى المختصين في العلوم الطبية بل لدى الكثير من التخصصات الأخرى، ولعل ضعف أو خلو المناهج الدراسية من الإحصاء هو سبب رئيس لهذا الخلل. ومع توفر مصادر التعلم المختلفة في العلوم الإحصائية إلا أن هذه المصادر عادةً ما تحتوي العديد من المسائل النظرية العميقة إحصائياً وتحتوي العديد من الأساليب والصيغ الرياضية المعقدة نوعاً ما، الأمر الذي يجعل الاستفادة من هذه المصادر لدى المتخصصين في العلوم الطبية قليلة جداً، كم أن ضعف الجانب الإحصائي والرياضي لدى الكثير يفاقم المشكلة. تتوفر الكثير من البرامج الإحصائية التي لا تتطلب الإلمام بأي لغة برمجة والتي تمكن غير المختصين في مجال الإحصاء من تنفيذ التحليل الإحصائي بشكل بسيط إلا أن ذلك له قد يكون له أثر سلبي كبير وهو من أحد أهم الأسباب للأخطاء الإحصائية.
ولعلاج ذلك بشكل عام نحتاج فإن تكثيف المهارات الإحصائية في المناهج الدراسية في مراحل مبكرة وفي المرحلة الجامعية سيكون له أثر إيجابي. ولتقليل أو تجنب الكثير من الأخطاء الإحصائية في البحوث الطبية يجب تنمية القدرات والمعرفة الإحصائية والرياضية للمتخصصين في المجال الطبي، مع مراعاة التركيز على الجانب التطبيقي ولكن دون إخلال بالجانب النظري، إضافة إلى الحرص استحداث مواد تتعلق بالتحليل الإحصائي في المراحل الدراسية المختلفة للأطباء حيث إنه يصعب استدراك ذلك بعد التخرج. كما أن إشراك الإحصائيين في البحوث الطبية في مرحلة مبكرة جداً من تصميم الدراسة كفيل بتلافي الكثير من الأخطاء المرتكبة والجسيمة. ومن جانب آخر يجب على المجلات العلمية التركيز على مراجعة الجوانب الإحصائية وتحكيمها لدى مختصين وعدم الاكتفاء بمراجعة وتحكيم الجوانب الطبية فقط.
** **
د. سعد جمعان عبدالله المالكي - عميد الدراسات العليا، جامعة الطائف