د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
نَوِّنْ إن شئت (كتاب) أو لا تنونه؛ فأنت مصيب في الحالين، إذ كتاب (ثلاث وأربعون: الميلاد والرحيل) كتابٌ فريدٌ في نظري، وهو كتابُ فريدٍ؛ فريد بن عبدالعزيز الزامل السليم.
أما كونه كتابًا فريدًا فلأنّ كاتبه نحويّ، وقلما تجد من النحويين من يكتب في مستوى إبداعي أدبي يوازن بين جانب تقرير الوقائع والأحداث وسجل الذكريات وجانب الصياغة الأدبية بجمل قصيرة ألفناها في كتب أدباء العصر العباسي كالجاحظ وأبي حيان التوحيدي، وهو فريد لأنه يكشف حياة خاصة تضيء جوانب من شخصية هذا الذي عرفناه في قاعات الدرس ومنابر التعليم وفي الندوات والمؤتمرات، فما عرفنا غير سمت الباحث ووقار العالم وما عرفنا سوى نبل أخلاق وطيب معشر وحسن لقاء ومعرفة لأقدار الناس، وغاب عنا تجمله لكل كرب وتحمله لكل حَزْب، يقول «لقد قابلت الناس يومذاك، واستقبلت كبار الضيوف وصغارهم، وصَعِدت المنابر، وتصدرت المجالس، وصورتها تتراءى لي في كل حرف أقرؤه، وفي كل وجه أقابله، وأحسب الساعات التي تفصلني عنها، والخطوات التي توصلني إليها»(1). وهو كتاب فريد بما يعرض لك من ثقافة كاتبه ومعرفته بمصادر تلك الثقافة قديمها وحديثها، وهو فريد بما يقدمه من مثال للمرأة العظيمة في بلادنا، وهو مثال سيذكّر كثيرًا من القراء بأمهاتهم وبما بذلن في سبيلهم من حب وعطاء وحنان وإشفاق ورجاء وتقويم، يقول فريد عن كتابه «حسبي ... أن ينظر فيه ناظر فيدعو دعوة صالحة تنفعها وتنفعني، أو يقف على شيء يُفيد منه، من لفتة تربوية، أو صورة اجتماعية، أو معلومة تاريخية، فينالنا أجره، أو يجد فيه رسالة توقظ ذا غفلة، أو تذكر ذا عقوق، أو تستثير ذا قريحة، أو تستحث ذا همة، فينفع الله به، والله لطيف كريم، ذو فضل عظيم»(2). وهو فريد بما يصوره من علاقة تلاحم ومحبة بين أمّ وابنها وبما يصور من مثال نادر للبرّ، وهو على الرغم من عظم بره وشدة ملازمته لها وتفانيه في خدمتها لا يفتأ يلوم نفسه ويراها مقصرة في حق أمّه، وهو كتاب فريد لما اتصف به من شجاعة جعلته يشرك القارئ في تفاصيل دقيقة قد يحجبها غيره مسايرة لعرف اجتماعي سائد، ومن كان يعرف فريدًا الأستاذ النحوي الجامعي سيعرف الآن فريدًا في طفولته وشبابه، سيعرف جانب الإنسان فيه في حالات فرحه وحزنه وسيعجب كيف استطاع هذا الرجل رغم الظروف التي مرّ بها أن يسيطر على مقتضيات حياته العلمية والعملية.
كان اسم (فريد) مثار دهشتي أول معرفتي به؛ ولكني بقراءة الكتاب وجدت صدق الاسم على المسمى، فأي توفيق وفق إليه والده ليسميه بهذا الاسم من غير أن يعلم أنَّه «واحدُ أُمِّه»(3).
أما عنوان الكتاب (ثلاث وأربعون: الميلاد والرحيل) فثلاث وأربعون هي سنوات عمره التي صحب فيها والدته منذ ولادته حتى رحيلها، كأن هذه السنوات هي حياته ختمت برحيلها «رحلت أمي بعد أن حقّقْتُ جُلَّ ما أطمح إليه من زهرة الحياة الدنيا وزخرفها، لم يبق شيءٌ بعدُ ألهث وراءه ولا شأوٌ أطلب إدراكه»(4).
ستقرأ في هذا الكتاب ما ثقفه فريد من حياة أمه في طفولتها وزواجها من أبيه زوجة ثانية، ومن علاقتها الطيبة بجارتها، لا ضرتها، ومن جملة أفعالها الطيبات، ومن رعايتها له خير الرعاية، ستقرأ عن رحلات الحج، وعن معاناة كانت من أخطاء آخرين، وستقرأ عن تحميل هذه السيدة نفسها ما لا تطيق حتى عاد ذلك عليها بآلام مبرحة، ستقرأ عن ابتلائها بمرض جلدي لم يوفق الأطباء في وصفه فعاشت دهرًا من حياتها تعاني ذلك بصبر وتوكل على الله حتى شاء الله أن يُهتدى إلى العلة وتتخذ سبل العلاج، وعن معاناتها في آخر حياتها بأمراض الرئة التي أجاءتها إلى مراجعات للمستشفيات كثيرة، ستقرأ كيف سخر فريد نفسه لخدمتها ورعايتها وكيف تعاظمت همومه.
ستقرأ هذا الكتاب فتمتعك لغته وحسن جرس جمله ووضوح لغته، غير ما يعرض من ألفاظ غريبة لقدمها في التراث أو لانتمائها إلى مستوى لهجي، ولكن طبع المؤلف البحاثة لا يدع القارئ من غير شرح وتفسير.
وهذا كتاب جدير بالقراءة.
... ... ...
(1) ص8.
(2) ص10.
(3) هذا عنوان الفصل 23، ص106.
(4) ص8.