ليست أرضنا، ولم تكن يومًا، على هامش الجغرافيا، كما لسنا، وليست حضارتنا، ولم نكن يومًا أو تكن على هامش التاريخ. إنْ تفجرت الأراضي بالأنهار والعيون هنا وهناك فإنّ أرضنا تتفجر بمشاهد التاريخ، ونقوش التراث، وبالحفريات الضاربة في القدم، والورقات العتاق اللاتي تتناقلهن أمانة الأجيال، وبالعلوم والمعارف التي أزاحت سجف الظلام في أنحاء المعمورة. هنا ابتدأت عصور التنوير، ومن هنا مرّ الذين استناروا بها، وإلى هنا تهفو أفئدتهم التي تنبض بالوفاء، وتحن إلى رد الجميل.
* * *
في أواخر سنة 602هـ تناهى إلى مسامع الشاب الدمشقي الذي أكمل لتوه عامه الخامس والعشرين (أحمد)، ابن سلطان زمانه الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي، أنه نزل مدينة (إربل) العراقية الكردية شيخان بغداديان كبيران من رواة الحديث النبوي، هما: عمر بن محمد ابن طبرزذ، وحنبل بن عبدالله الرصافي، وقد كثر اجتماع الناس في دار الحديث الإربلية لقراءة كتب الحديث عليهما.
كان هذا الجانب العلمي هو كل اهتمام الشاب (أحمد)، أو «الملك المحسن»، كما كان يلقب. يقول صاحبه وتلميذه ابن العديم: «اشتغل الملك المحسن بالعلم، وخرج عن لبس الأجناد، وتزيّا بزي أهل العلم، واشتغل بالحديث وسماعه والاستكثار منه، وتحصيل الأصول الحسنة بخطوط المشايخ».
سارع «الملك المحسن» بالكتابة إلى زوج عمته، الملك مظفر الدين كوكبري بن علي التركماني، الذي أنعم عليه السلطان صلاح الدين قبل مدة بأن زوّجه أخته، وولاه مدينة (إربل)، وذلك بعد وقفاته القوية، وثباته البطولي، وخصوصًا في معركة (حطين) الفاصلة. طلب «الملك المحسن» من زوج عمته أن يُنفِذ الشيخين المذكورين إليه في (دمشق)، لرغبته في سماع الحديث عليهما. ووافق الملك مظفر الدين بعد لأي وعلى مضض؛ فأرسل حنبلًا أولًا، ثم ثنى بابن طبرزذ.
حل الرجلان محل التكريم والتعظيم، وأكثر أهل دمشق السماع عليهما، فقرؤوا عليهما الكتب الصغيرة والكبيرة، وكان «الملك المحسن» ينزلهما في داره، ويقرأ عليهما بنفسه أحيانًا. من ذلك، مثلًا، أنه قُرئ على ابن طبرزذ كتاب (سنن أبي داود) كاملًا في شهور سنة 603هـ، في مجالس عقد كثير منها في بيت «الملك المحسن»، ثم استضافه «المحسن» في داره ثانيةً في شهور السنة التالية، 604هـ، لقراءة الكتاب نفسه، وحضر السماع هذه المرة أطفاله: فاطمة (7 سنوات)، ومحمد (5 سنوات)، وعلي (سنتان). كان إسماع الأطفال عادة شهيرة من عادات المحدّثين وأهل العلم في ذلك العصر، و«الملك المحسن» يتتبع آثارهم على كل حال.
* * *
لقد كان من أشهر عادات المحدّثين وأهل العلم في ذلك العصر، أيضًا، عادة (المجاورة)، وهي البقاء إلى جوار بيت الله الحرام، ومسجد نبيه مدة من الزمان. وقد حدّثت (أحمد) نفسه بنيل شرف الجوار، واستحقاق اللقب التكريمي (جار الله)، فسافر إلى الديار المقدسة في شهور العام التالي، 605هـ، وبقي هناك سنةً كاملة، أكثر فيها من العبادة، وقراءة الحديث على شيوخ الحرمين الشريفين. ولا شك أنه في أثناء مجاورته، أو في طريقه إليها، قد دخل عدة مدن وقرى، تقع اليوم غرب وشمال غرب وطننا الأصيل، المملكة العربية السعودية.
نقف هنا على وثيقة مهمة، تبيِّن انعقاد مجلس لقراءة وسماع الحديث بالجامع العتيق في (جدة)، بحضور «الملك المحسن»، بل بقراءته بنفسه. ترجع هذه الوثيقة إلى 836 سنة من اليوم، وتحتفظ بها المكتبة الظاهرية في (دمشق).
* * *
يشار في «الطبقة» (وهي محضر السماع) إلى الملك المحسن بـ: «جار الله، ونزيل بيته، الإمام الحافظ الفقيه، العالم العامل، الزاهد العابد الورع، المولى الملك المحسن، ظهير الدنيا والدين، سيد الملوك والسلاطين، شرف الحرمين، ملك العلماء، ناصر السنة، محيي الشريعة، جمال الحفاظ، أبي العباس أحمد، ابن المولى الملك الناصر، جامع كلمة الإيمان، قامع عبدة الصلبان، صلاح الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، محيي العدل في العالمين، مجير المظلومين من الظالمين، منقذ البيت المقدس من أيدي المشركين، أبي المظفر يوسف بن أيوب بن شادٍ، أدام الله عزه، وقدس روح والده».
والوثيقة مؤرخة بدقة «وذلك في يوم الخميس، السادس والعشرين من شعبان، سنة خمس وستمائة» (الموافق 5 مارس، 1209م)، أي: قبل دخول شهر رمضان المبارك بليالٍ معدودات. وكذلك حددت الوثيقة مكان السماع «بالمسجد الجامع بجدّة». كرر «الملك المحسن» هذه المعلومات في بداية الكتاب ثانية، ولكن بقلمه الشخصي.
وللربط والمقارنة، فإن الرحالة الشهير (ابن جبير) كان هنا، في جدة، قبل 26 عامًا فقط، ووصف البلدة وصفًا مفصلًا، دوّنه في «رحلته»، ويعد من أقدم مشاهداتها التراثية المكتوبة. ولا بد أن الوثيقة التي نحن في سياق الكشف عنها تضيف جانبًا مهمًّا من جوانب تاريخ جدة الثقافي.
في ذلك الشهر بعينه، شعبان، 605هـ، نفذت مبرّات عدة في مكة المكرمة ومشاعرها المقدسة، فأُنشئت ثلاثة أعلام توضح حد عرفة من جهة مكة المكرمة، وحُفرت بئران بعرفة، وأصلحت «عقبة المتكأ» بطريق التنعيم، وعُمر هناك موضع بالاسم نفسه. كانت هذه المبرّات جميعًا بأمر وتمويل من الملك المظفر كوكبري نفسه، والي (إربل)، وزوج عمة «الملك المحسن». هل كان وجود «الملك المحسن» بمكة وقتها مصادفة؟ ليس مستبعدًا أنه كان يشرف على الإنشاءات مدة إقامته، أو أنه حمل مؤنتها معه في سفره. هذا على أنه كان للملك المظفر نواب يُنفِذ على أيديهم صدقاته إلى مكة بشكل دوري.
يشير جانب آخر من الوثيقة السابقة ذاتها إلى أن «الملك المحسن» بقي يتجول في المنطقة، وزار مشعر عرفات قبل بداية موسم الحج بمدة (الاثنين، 20 شوال، 605هـ)، وأعاد قراءة مختارات من الكتاب الذي قرأه في جامع (جدة) على الشيخ نفسه، ولكن في مكان ما من «وادي محسر» هذه المرة.
* * *
خلال القراءة الأولى في (جدة) يمر بالملك المحسن مجموعة روايات تتحدث عن أول سَلَب خُمّس في الإسلام، وتحكي قصة تلك المبارزة التي حصلت بين البراء بن مالك - رضي الله عنه - و«مرزبان الزارة»، أثناء حروب الردة في منطقة البحرين. يقرأ «الملك المحسن» في نص الكتاب: «والزارة أرض من البحرين» (البحرين التاريخية هي المنطقة الشرقية في المملكة حاليًا، و«الزارة» هي ما أضحى اليوم قرية العوامية).
هل كان يدور في مخيلة «الملك المحسن» لحظتها أن يصل يومًا ما أحد كتبه الأثيرة إلى نفسه، الذي كتبه كاملًا بخط يده، إلى (البحرين)، وإلى مكان لا يبعد كثيرًا عن (الزارة)؟.
* * *
في إحدى زيارات جلالة الملك سعود بن عبدالعزيز آل سعود - رحمه الله - إلى المنطقة الشرقية، في عقد السبعينات الهجرية الماضي (الخمسينات الميلادية)، أُنهي إليه أن لدى فضيلة الشيخ محمد بن عبدالله آل عبدالقادر، قاضي (المبرز) منذ ثلاثين عامًا، مكتبة أصيلة توارثتها أجيال من علماء أسرته، وملأى بالمخطوطات القيمة. قصدها الملك سعود، واطلع بنفسه على نفائسها، ولفتت نظره تلك النسخة العتيقة الفاخرة، المشبعة بخطوط العلماء وملاحظات السماع والقراءة، من كتاب (سنن أبي داود). بعد أن تفحصها الملك وجّه باستعارتها وإرسالها إلى الولايات المتحدة الأمريكية لتصويرها تصويرًا رقميًّا متطورًا نظرًا لقيمتها العالية. في وقت لاحق، وبسخاء نادر، تفضل الشيخ محمد آل عبدالقادر بإهداء النسخة إلى فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ، الذي أودعها في مكتبة الرياض السعودية (الإفتاء)، وهي اليوم إحدى مجموعات مكتبة الملك فهد الوطنية.
* * *
تلك كانت نسخة «الملك المحسن» عينها التي كتبها بخطه، وقرأها بنفسه في بيته بدمشق على ابن طبرزذ عامَي 603هـ و604هـ، قبل رحلته الحجازية بأشهر يسيرة. انتقل «الملك المحسن» بعد رحلته بنحو سبع سنوات إلى (حلب)، وسكن قربها في قرية قذاران (المعروفة اليوم بقديران)، إلى أن توفي وقت الظهر من يوم الأحد، الخامس والعشرين من محرم سنة 634هـ، وهو في السابعة والخمسين من عمره. ومع أنه أوقف مكتبته النفيسة بمدرسة أخيه الملك الظاهر بحلب إلا أنها تفرقت بعد مدة، وانتقلت منها نسخة (سنن أبي داود) إلى مصر، فبقيت فيها أكثر من قرنين من الزمان، تتداولها أيدي الوزراء والعلماء المشاهير، ثم ساقتها المقادير بعد ذلك إلى مكة المكرمة، فإلى الأحساء، ثم لتستقر أخيرًا، منذ عام 1377هـ، في مستودعها المكين، في قلب (الرياض).
مصادر المقالة:
«رحلة ابن جبير». «تاريخ إربل» لابن المستوفي. «بغية الطلب» لابن العديم. «تاريخ الإسلام» للذهبي. «الوافي بالوفيات» للصفدي. «العقد الثمين» للفاسي. «المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية، المنطقة الشرقية (البحرين قديمًا)» للجاسر. مقدمة تحقيق «سنن أبي داود» لعوامة. موقع «أسرة آل عبدالقادر» الإلكتروني.
** **
د . محمد بن عبدالله السريّع - كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، جامعة القصيم