تشترط معظم برامج الدراسات العليا على طلبتها كتابة رسالة علمية كمتطلب للحصول على درجة الماجستير أو الدكتوراه. وفي التخصصات ذات الطابع العملي، تتطلب هذه الرسالة جمع بيانات أو إجراء تجارب ثم تحليل نتائجها واستخلاص توصيات منها. وفي نهاية المطاف، تقوم لجنة مختصة بمناقشة هذه الرسالة لاتخاذ قرار بمنح الطالب الدرجة العلمية أو لا. ولعل من أصعب الأمور التي تواجه طالب الدراسات العليا هو تحديد موضوع البحث، حيث عادة ما يُطلب منه إيجاد ثغرة علمية (Knowledge Gap) لإجراء بحثه فيها.
ولنا أن نتساءل، هل من المنطقي أن يُطلب من طالب الدراسات العليا إيجاد ثغرة علمية لم يسبقه بها أحد من الأولين؟ وهل ستكون هذه «الثغرة» ثغرةً مستحقة لعناء البحث العلمي حقاً وفيها إضافة نوعية للتخصص؟ فالعثور على هكذا ثغرة عادة ما يحتاج لتعمّق وتبحّر في قراءة ومراجعة الأبحاث التخصصية لسنوات طويلة، بينما هذا الطالب لا يزال على عتبة البحث العلمي.
ولنا أن نتساءل أيضاً، هل نجحت هذه التجربة؟ فإذا كانت ناجحة، فإن المنطق يقودنا إلى استنتاج أن عدداً هائلاً من الثغرات العلمية قد تم سدها بالفعل خلال السنوات العشرين الماضية، خصوصاً أن هذه الرسائل يصل عددها للآلاف سنوياً حول العالم. ولكن الواقع يخبرنا أن هذا الكم من الرسائل لم يؤدِ إلى تراكمٍ معرفي معتد به، بل إني لا أبالغ إن قلت بأن أغلب هذه الرسائل لا يقرؤها إلا مناقشوها - مع أن الكثير منها متوفرة على الشبكة العنكبوتية بضغطة زر - بدلالة أنه قد تمر العشر والعشرين سنة ولا تحصد هذه الرسائل استشهاداً واحداً من المختصين في المجلات العلمية، بل حتى بعد نشرها في المجلات العلمية المحكمة في منطقتنا يبقى الاستشهاد بها شبه معدوم، ويبقى معامل تأثير الكثير من هذه المجلات صفراً!
كل هذه المعطيات تشير إلى وجود خطأ منهجي في التعامل مع الرسائل الجامعية. ومنبع هذا الخطأ هو الغفلة عن أن الهدف الرئيس للدراسات العليا هو «تدريب» الطالب على البحث العلمي. فمنح الشهادة العليا في التخصصات ذات الطابع العملي تعني أمرين. أولهما هو معرفة الطالب بالتخصص ومفاهيمه ونظرياته ونتائج أهم الدراسات فيه، وهذا يقاس بالاختبار الشامل والمسح الأدبي وما شابه. وثانيهما هو قدرة الطالب على إجراء البحث العلمي، وهذا يُقاس بإجراء بحث تحت إشراف أستاذ مختص يأخذ بيد الطالب خطوة خطوة. أما اشتراط اتسام النتائج نفسها بالجدة بحيث لا يسبق الطالب بها أحد من الأولين، فما هي إلا فكرة متوارثة تحتاج لإعادة نظر؛ لأنها لم تؤتِ أكلها كما سبق بيانه.
والحل الذي ينادي به الكثير من المختصين هو تشجيع منهج التكرار (Replication). وهنا يقوم الطالب باختيار دراسة منشورة لنتائجها بصمة مهمة في التخصص، ثم يقوم بإعادة إجرائها بدقة في المجتمع السعودي مثلاً. وفي النهاية يقارن الطالب النتائج التي توصل إليها بنتائج الدراسة «المكررة» لمعرفة مدى تطابق النتائج ولتفسير ما تباين منها.
وللتعرَّف على فوائد هذا المنهج، فلننظر إلى الخطوات التي يجب أن يتبعها الطالب:
أولاً، على الطالب أن يجد دراسة مهمة ويبرر اختياره لها، كمكانة مؤلفها ووعاء نشرها وعدد الاستشهادات بها وأهمية النظرية التي تدعو إليها.
ثانياً، يقوم الطالب بكتابة مسح أدبي مستوف لكافة جوانب الموضوع، بما في ذلك الجوانب التي لم تقم الدراسة المكررة نفسها بتغطيتها، والنظرية التي تبتني عليها بما في ذلك افتراضاتها (Hypotheses)، والجدل الذي ظهر بعد نشرها إن وجد، ونتائج المحاولات الأخرى لتكرار هذه الدراسة.
ثالثاً، يقوم الطالب بإعداد طريقة بحثه على ضوء الدراسة المكررة مع بيان مواطن الاختلاف - كاختلاف مجتمع الدراسة أو أعمار المشاركين - مع بيان النتائج المتنبأ بها (Predictions) بسبب هذه الاختلافات.
رابعاً، يجمع الطالب البيانات ويحلّلها متبعاً منهجية الدراسة المكررة، وهذا يستلزم فهم عمليات التحليل المستخدمة في الدراسة المكررة، ونقدها إذا لزم الأمر.
خامساً، مقارنة نتائج البحث بما تنبأت به نظرية الدراسة المكررة، ونقد النظرية في ضوء هذه النتائج.
واتباع هذا المنهج له فوائد جمة لتدريب الطالب على البحث العلمي. فمنها وضوح الهدف للطالب، فهو يتبع مثالاً نموذجياً واضح المعالم ويحتذي به. ومنها المساهمة العلمية في التحليلات البَعدية (Meta-Analyses) والتي تؤدي إلى التراكم المعرفي. ومنها جعل البحث العلمي عملية تعاونية لا تنافسية الفائز فيها من ينشر بحثه قبل غيره. ومنها أن يستوعب الطالب أن عدم الحصول على نتائج ذات دلالة إحصائية (Significant Results) لا يعني فشل البحث بالضرورة، بل قد يعني فشل النظرية، وأن نتائج أي دراسة منفردة مبنية على الاحتمالات (Probabilities) ولا تشكل سوى جزء من الصورة الكاملة. فيجب الأخذ بعين الاعتبار مجموع نتائج الدراسات الأخرى لتقييم النظريات العلمية بشكل أدق.
ولا شك أن مجموع هذه الفوائد لمنهج التكرار تساعد على تدريب طالب الدراسات العليا معرفياً وبحثياً. ولهذا فقد أصبح تطبيق منهج التكرار توجهاً عالمياً ينادي به الكثير من المختصين، بعضهم ينتمي لجامعات عريقة مثل جامعة أكسفورد(1) ونوتنغهام(2) وأمستردام(3). كما قد أعد بعض المهتمين مناهج مجانية وجاهزة للاستخدام لمساعدة أستاذة الجامعات على تطبيق هذا المنهج(4)، بل توقع بعض المراقبين أن يكون تطبيق منهج التكرار أحد معايير تصنيف برامج الدراسات العليا، وأحد معايير منحها الاعتماد الأكاديمي(5).
ولا يخفى أن تطبيق منهج التكرار هذا لا يعني «منع» طالب الدراسات العليا من اقتراح موضوع يتسم بالجدة إن وقع على ثغرة تستحق البحث، بل المشكلة تكمن في كون هذا هو الخيار الوحيد أمام الطالب. فارحموا طلبة الدراسات العليا وشجعوهم على منهج التكرار خدمة لمستقبل العلم والوطن.
** **
- د. علي الحوري
@Ali_AlHoorie