د.فارس بن متعب المشرافي
التاريخ الرقمي-Digital History
ليس التاريخ الرقمي جديداً لدى الكثير, بل أصبحنا ندرك أننا نعيش العصر الرقمي بعينه, حيث الكثير من عمليات التوثيق والإجراءات الحكومية وغيرها بدأت تتأسس على الرقمنة وتقنياتها. في هذا المقال, أحاول شرح كيف يكون لتخصص التاريخ الرقمي أهمية ليس فقط في أن يكون ساحة جديدة لإنتاج المعرفة التاريخية وإنما كذلك كيف يكون مهماً في المساهمة في أن يكون مصدراً من مصادر التعلم وملهماً لمدرسي وطلاب التاريخ في عملية التعلم, مع الإشارة, في النهاية, إلى كيف سيساعد التاريخ الرقمي خلق فرص عمل لخريجيه. إضافة إلى هذا, سأشير إلى التخصصات العلمية التي ينبغي على قسم التاريخ التفاعل معها لتصميم تخصص في التاريخ الرقمي.
ابتداءً, عرّف دوجلاس سيفيلدت ووليام توماس التاريخ الرقمي في مقالهما What is digital history? بأنه اشتمال الويب على معلومات هائلة للتاريخ. ويرى سيفيلدت وتوماس أنه قد يُفهم التاريخ الرقمي على نطاق واسع, على أنه نهج لدراسة وشرح الماضي من خلال المعلومات التاريخية المقدمة عبر تقنيات الاتصالات الجديدة للكمبيوتر وشبكة الإنترنت وأنظمة البرامج. وبذلك يكون التاريخ الرقمي عبارة عن ساحة مفتوحة للإنتاج العلمي والاتصال يشمل تطوير مواد دراسية جديدة وجهود جمع البيانات العلمية. ومن جهة أخرى يكون منهجاً محاطاً بنصوص هائلة متعددة. وبذلك يكون التاريخ الرقمي عبارة عن إنشاء إطار من خلال التكنولوجيا ليتعرف الباحثون على جميع وجهات النظر والمناقشات بقدر الإمكان حول قضية تاريخية معينة. ولا يختلف في تعريفه مركز روي روزنزويج للتاريخ والإعلام الجديد في جامعة جورج ميسن (Roy Rosenzweig Center for History and New (Media at George Mason University حيث يعرف التاريخ الرقمي بأنه «نهج لفحص وتمثيل الماضي الذي يستفيد من تقنيات الاتصالات الجديدة مثل أجهزة الكمبيوتر والويب. يعتمد على الميزات الأساسية للعالم الرقمي، مثل قواعد البيانات، والنص التشعبي، والشبكات، لإنشاء ومشاركة المعرفة التاريخية». من هذه التعريفات, ربما نلخص أهمية التاريخ الرقمي في عدة نقاط, لعل أهمها هنا هي أنه يكون ساحة جديدة لإنتاج المعلومة التاريخية, وبالتالي فهو مصدر حديث قد يكون من أهم مصادر التعلم للطلاب في مختلف مراحلهم التعليمية.
والسؤال هنا كيف يكون التاريخ الرقمي ساحة لإنتاج المعلومة التاريخية؟ الحقيقة أن الوسط الرقمي أصبح ساحة لكل العلوم والفنون منذ عقود. يناقش Cameron Blevins أنه في أواخر التسعينات الميلادية بدأ التاريخ الرقمي بالظهور بعد صعود ما يسمى بالنص التشعبي hypertext . ركزت هذه الأعمال المبكرة لتاريخ النص التشعبي في المقام الأول على استخدام الأساليب الرقمية لاستكشاف الأشكال الجديدة التي قد تتخذها المعرفة التاريخية في الوسط الرقمي. وبسب هذا التطور التقني, أصبح التاريخ الرقمي مجالاً أكاديمياً يُدرس بالجامعات, على سبيل المثال جامعة نبراسكا-لنكولن University of Nebraska-Lincoln التي رأت أن التاريخ الرقمي أحد الحقول الفرعية الأكثر تقدماً من بين العلوم الإنسانية الرقمية الأخرى التي تُدرج الوسائط والأدوات الرقمية في دراسة السجل البشري. ولذلك تمنح الجامعة درجة البكالوريوس والدراسات العليا في تخصص التاريخ الرقمي.
لقد أثبت التجارب الرقمية لدراسة التاريخ نجاحاً في أن تكون ساحة لإنتاج المعرفة التاريخية ودراسة الماضي, بالرغم من السجال الأكاديمي حول فاعلية المؤرخين الرقميين في الخوض في الدراسات التاريخية أكاديمياً. هناك عدة أمثلة رائدة تؤكد ذلك, فمثلاً دراسة للمؤرخ الرقمي William G. Thomas III في مشروعه Railroads and the Making of Modern America (سكك الحديد وصناعة أمريكا الحديثة). يهدف هذا المشروع إلى توفير مجموعة واسعة من المصادر التي توثق الآثار الاجتماعية لسكك الحديد وتحول الولايات الأمريكية إلى أفكار ومؤسسات وممارسات حديثة في القرن التاسع عشر الميلادي. يستخدم المشروع الوسائط الرقمية لاستقصاء وشرح وتحليل هذا التغيير الاجتماعي وتوثيق نتائج الآثار الاجتماعية للسكك الحديدية. كما يعرض المشروع صور تاريخية تفسر ذلك الواقع وتستكشف وتشرح كيف أن خطوط السكك الحديدية غيرت مفاهيم الزمان والمكان لدى الأمريكيين, وكيف كذلك لعب استخدام هذه السكك في جنوب أمريكا في تطور مفهوم العبودية, وكيف لعبت حركة التنقل عن طريق السكك دوراً في عملية الاستقرار وبناء المستوطنات حول تلك المحطات لسكك الحديد, وكيف أثارت تلك السكك المعارضة السياسية تجاه ارتفاع معدل الأسعار. يهدف هذا المشروع, كما هو مبيّن في موقع جامعة نبراسكا-لينكولن, إلى العمل كمنصة بحث وتدريس لاختبار الفرضيات, وإنشاء تصورات العمليات المعقدة التاريخية لتكون ملهمة للمعرفة التاريخية. استفاد من هذا المشروع أكثر من عشر دراسات تاريخية وأكثر من عشر أوراق علمية قدمت إلى مؤتمرات متعددة.
دراسة أخرى مماثلة هي دراسة ادم ارينسون Adam Arenson بعنوان Banking on Beauty: Millard Sheets and Midcentury Commercial Architecture in California, يقصد أرينسون بالجمال هنا بالجمال المعماري خصوصاً المتعلق بالمباني التجارية. هذه الدراسة الرقمية, وإن أصدر مؤخراً كتاب, تروي التاريخ المفعم بالحيوية والرسومات بشكل واسع كيف أن الشراكة غير العادية مع الممول التجاري هوارد اومانسون Howard Ahmanson والفنان التشكيلي ميلارد شيتس Millard Sheets أنتجت معمارية ذات طراز فني عصري في منتصف القرن العشرين لتستحق بالتالي القروض التمويلية العقارية. هذه الدراسة باختصار تتحدث عن علاقة تمويل الشركات والفنانين- تاريخ الأعمال (رجال الأعمال) والفن (الفنانين), هذه العلاقة التي أنتجت هندسة معمارية معاصرة عبرت عن عملية التحديث والحداثة في أمريكا-القرن العشرين. تجتهد دراسة أرينسون إلى تذكير قرائها الأمريكان بالوقت الذي كان فيه قادة أمريكان يهتمون بالأماكن العامة بقدر اهتمامهم بالمحصلة النهائية التي تعكس الحداثة المعمارية والرجل الأمريكي الحديث. تحث الدراسة كذلك الأمريكان بالحفاظ على هذا الإرث العظيم الذي خلفه الفنان ميلارد شيتس بدعم من رجل الأعمال هوارد اومانسون.
أما فيما يتعلق في كيف يكون التاريخ الرقمي مصدراً حديثاً من مصادر التعلم, فهناك العديد من التجارب الناجحة في هذا المجال. أصبح التاريخ الرقمي مصدراً من مصادر التعلم التي تساعد المعلمين والطلاب في تدريس ودراسة مادة التاريخ, ولعل أحد أهم الأسباب هو سهولة وصول المعلومة إلى المعلمين والطلاب من خلال خدمة الإنترنت. يؤكد Daniel J. Cohen و Roy Rosenzweig هذا في مدونتهما, أن العديد من المؤرخين, الذين دخلوا الإنترنت مرارًا وتكرارًا, أكدوا اكتشاف مكتبة الكونغرس المبكر أن شبكة الإنترنت تصل إلى عدد غير مسبوق من الطلاب والمعلمين من الروضة وحتى الصف الثاني عشر. ونتيجة لذلك، قامت نسبة كبيرة جدًا من مواقع الويب، بغض النظر عن تركيزها الأساسي، بتقديم المواد التعليمية والإرشادات في تدريس مادة التاريخ. كما يعرض Cohenو Rosenzweig أنه على الرغم من أن الأرشيفات والمكتبات تقليديًا قد تجنبت وظيفة التدريس بشكل مباشر، إلا أنها غالبًا ما تبنتها على مواقعها الإلكترونية. إن مهمة تقديم المقررات الدراسية والفصول الدراسية عبر شبكة الاتصال قد يضطلع بها العديد من مواقع الويب, سواء الحكومية أو الخاصة, إلا أنني سأكتفي بإعطاء ثلاثة أمثلة نموذجية عن ذلك, مثال من الجهات الحكومية, ومثال من الجمعيات التاريخية, ومثال كذلك من المتاحف التاريخية.
أما المثال الذي ربما يكون لائقاً بدور الجمعيات التاريخية, هو مثال ما تقوم به الجمعية الأمريكية التاريخية من تقديم, على موقعها الإلكتروني, مشروع عبارة عن ويب يقدم نماذج للمؤرخين حول كيفية استخدام المصادر الأولية الرقمية في تدريس تاريخ العالم وتاريخ الأميركيتين. يتضمن الموقع عدة روابط رقمية, يستطيع المعلمون استخدامها في تدريس مادة التاريخ. تحتوي هذه الروابط على نقاشات لمواضيع تاريخية سواء تتعلق بالتاريخ الوطني الأمريكي أو حتى التاريخ العالمي, بالإضافة إلى إعداد أسئلة ومصادر مرئية لكل درس.
المتاحف التاريخية, المثال الثالث, ليست أقل جهداً من الجهات الحكومية أو الجمعيات التاريخية في موضوع تقديم مصادر تعليمية رقمية لتدريس مادة التاريخ. معهد ومتحف سميشسونيان Smithsonian Institution عبر نسخة The American Presidency: A Glorious Burden, أحد أبرز المتاحف التي يقدم العديد من المواضيع التاريخية, كالثقافة الأمريكية, بناء الأمة الأمريكية, تاريخ الإعاقة (الأمريكان المعاقين), تاريخ الطعام, تاريخ الابتكار, التاريخ اللاتيني, تاريخ المرأة في أمريكا, تاريخ الإنسانية-الإحسان (philanthropy), الدين في أمريكا, وغيرها من المواضيع التاريخية. كما يقدم المتحف, علاوة على ذلك, العديد من المصادر المتنوعة المرقمنة, ويقدم فهارس مشروحة وخططاً لمقررات تدريس التاريخ الأمريكي وإرشادات حول استخدام المواقع الرقمية وروابط الويب التي تخص عملية تعليم المواد التاريخية لمعلمي الروضة حتى الثانوية العامة, والأنشطة الطلابية.
يقدم متحف سميشسونيان عدة معارض فنية تحتوي على الدروس التاريخية, ويعتبر معرض George Catlin من أكبر تلك المعارض. يتخصص معرض George Catlin في تاريخ السكان الأصليين لأمريكا الشمالية (الهنود الحمر), وينقسم إلى قسمين, القسم الأول وهو عبارة عن معرض رسوم George Catlin and his Indian Gallery, وهذا القسم يضم المئات من اللوحات الملونة للقبائل الهندية التي زارها كاتلين, وكذلك مواد أرشيفية. أما القسم الثاني, Campfire Stories with Catlin: An Encounter of Two Culture, «قصص المعسكر مع جورج كاتلين: لقاء بين ثقافتين»، وهو موقع تعليمي، يعتبر مصدراً للمعلمين والطلاب يتناول للصفوف 5-12 . يتضمن الموقع مناقشات حفلات السمر التي عادة ما كانت تقام حول موقد النار في المعسكر خارج الخيام مع العلماء البارزين والقادة الهنود الأمريكيين، كذلك يتضمن الموقع مجلات كاتلين وعليها تعليقات من الأمريكيين الأصليين أنفسهم، بالإضافة إلى كراسة رسم خاصة بكاتلين. جميع هذه المواد تعتبر مصادر أولية وأساسية لمادة التاريخ التي يدرسها الطلاب.
نستطيع أن نفهم من هذه التعاريف والأمثلة الدولية بأن التاريخ الرقمي يساهم بشكل فعّال في تحقيق بعض تطلعات وأهداف رؤية 2030 . فإذا فهمنا أن المواقع الرقمية من أسهل وأسرع القنوات اتصالاً بالجمهور, فإن التاريخ الرقمي سيكون مهماً في إثراء تجربة الحجاج والمعتمرين الثقافية أثناء تواجدهم في ضيافة المملكة, وذلك من خلال دور المتاحف وتسخير التقنية من أجل الارتقاء بتجربة الحج في ضيافة المملكة, كما نصت على ذلك الرؤية. كما أن التاريخ الرقمي, من زاوية أخرى, إذا فهمنا أنه له دور مهم في حقل التعليم, فإنه سيكون مؤثراً في إبراز الإرث الثقافي والتاريخي والهوية الوطنية ويجعلها منارة تضيء طريق الأجيال القادمة, وهذا ما نصت عليه الرؤية, وذلك من خلال تطوير عملية تعليم التاريخ الوطني.
إن التاريخ الرقمي يحتاج إلى كوادر شابة تعمل في جميع القطاعات الحكومية والخاصة, وخصوصاً, كما وضّحنا آنفاً قطاع التعليم, ففي رأيي أن أغلب القطاعات والشركات تحتاج إلى رقمنة تاريخها, للاستفادة منه من خلال دراسته واكتشاف إيجابياته وسلبياته ليكون ملهماً لبناء الإستراتيجيات المستقبلية. إلا أن هذا يتطلب التفاعل بين تخصصات التاريخ والحاسب الآلي وكذلك الإعلام, وهذا ما دعا سيفيلدت وتوماس على أن التاريخ الرقمي يتطلب التعاون بين التخصصات interdisciplinary collaboration, بمعنى مبادرات تشمل المؤرخين والمبرمجين ومهندسي المعلومات والمصممين. وتحقيقاً لهذه الغاية، قال لورانس John A. Lawrence, أحد حاملي درجة الدكتوراه في التاريخ, الرئيس السابق لمكتب رئيسة النواب الأمريكي Nancy Pelosi, إن منهج التاريخ يحتاج إلى «نظرة فاحصة»، حيث إن تضمين المزيد من العمل «العملي» في الاقتصاد والحكومة والسياسة العامة يمكن أن يساعد في تنويع المسارات الوظيفية للمؤرخين.