د. جاسر الحربش
مدخل: لا علاقة لهذا المقال بتطبيع العلاقات بين دولة خليجية والمحتل الإسرائيلي (وهذا هو الاسم المناسب حتى يحصل الفلسطينيون على دولتهم المستقلة)، وله علاقة مباشرة بأخطاء القيادات الفلسطينية المتراكمة منذ احتلال العراق للكويت قبل ثلاثين سنة. الأخطاء الغبية المزمنة ضد الحكومات والمجتمعات العربية في الخليج تدل على غرور واستعلاء في ظاهرها، وتستبطن انتهازية وعمالة وتكسباً رخيصاً في أسواق الشعارات الكاذبة. تكرر الأخطاء والاستمرار في المكابرة أوصلها إلى تلاسن غبي وسفيه بين بعض المكونات العصابية في الطرفين الفلسطيني والعربي الخليجي، وأضعف التأييد للحق الفلسطيني في الدولة والعودة والتعويض، فصار يمر بمرحلة محزنة من التأزم الذي يجب أن يصحح وتقفل ملفاته بعد معرفة الأسباب، وهذا هو هدف المقال. بداية أود التذكير بالحقائق التالية:
أولاً: ليس الأولوية في الموقف الخليجي الرسمي والاجتماعي تجاه الحق الفلسطيني هي مبدأ الاعتراض على تهافت القيادات الفلسطينية وفشلها، ولأنها تسهم عمداً في تجييش السفهاء والمأجورين في إعلامها وتصريحاتها، وإنما الأولوية تقع في مجال حقوق الأحياء من أجيال الأطفال الشهداء محمد الدرة وباسل الجيطان وعلي دوابشه وأمهاتهم وجداتهم وشيوخهم المغلوبين على أمورهم.
ثانياً: لا جدال في أنه يوجد مقابل كل فلسطيني سفيه مستأجر للإساءة بمقابل مالي أو استخباراتي إسرائيلي - إيراني - تركي، يوجد عشرات من الفلسطينيين في الأغلبية الصامتة المعارضة لهذا الانحراف المعيب المدمر. كاتب هذا المقال عربي سعودي سبعيني ينتمي لجيل لقن التضامن مع الحق الفلسطيني في البيت والشارع والمدرسة، ويحزنه أنه لم يعد يجد ذلك التضامن في الأجيال الجديدة في المجتمعات الخليجية وغير الخليجية. المهم، هل في هذا الفتور تجاه حق ديني (إسلامي ومسيحي) وعربي وتاريخي سبب أو أسباب مسكوت عنها، والجواب هو نعم.
يتعجب علماء الاجتماع في الدول الأوروبية من ظاهرة تمرد الجيل الثالث والرابع من أحفاد مهاجري المستعمرات القديمة قبل ثلاثة أجيال. الجيل المهاجر الأول، جيل الأجداد هرب من الفقر الذي سببه الاستعمار وعملاؤه في المستعمرات، وقد هرب بطموح واحد، توفير العيش الكريم له ولأولاده. الجيل الثاني (الأبناء) تعلم ونافس ونجح واعتقد بحصوله على جنسية الدولة الأوروبية أنه صار أوروبياً مثل السكان الأصليين. الجيل الثالث والرابع (الأحفاد) استعاد الذاكرة الأصلية الأولى وبدأ الاحتجاج والتحدي والاعتزاز بهويات أجداده.
للتوضيح، في القرن الواحد تنتقل المسؤولية مناولة بين ثلاثة أجيال، بمعدل جيل جديد لكل ثلث قرن، فما الذي حصل للأجيال المتعاقبة في فلسطين المحتلة منذ وعد بلفور وحاييم وايزمان حتى الآن.
لنلقي نظرة على تعاقب الأجيال الفلسطينية: جيل النكبة (كما يسمونها) أي الجيل الأول حمل معه الأمل الكبير في أن الحق لا يضيع وكان عليه التوفيق بين الكفاح المعيشي في المهاجر وفي الأرض المحتلة لمن بقي فيها، مع الاحتفاظ بذاكرة الوطن. الكفاح المعيشي استهلك كل الجهود والوقت فلم يكن ثمة مقاومة مشهودة تدخل هذا الجيل التاريخ مع الأمم ذات الكفاح المجيد من أجل الحرية. اكتفى الجيل الأول بالصراخ والاستنجاد بالعرب والمسلمين واتكل بشكل شبه كامل على ذلك. منذ بداية الهجرات الصهيونية وحركاتها الإرهابية إلى فلسطين في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي وحتى أواسط الستينيات لم يقدم جيل النكبة الفلسطيني أكثر من الصراخ والتهديد والاستغاثة بالإخوة العرب، وانصرف الناجحون منه إلى جمع الثروات والامتيازات.
في الستينيات والسبعينيات بدأ الجيل الفلسطيني الثاني (في المهاجر وليس في الأرض المحتلة) بتكوين تجمعات قتالية هنا وهناك واستطاع ازعاج الاحتلال بأعمالة القتالية، لكنه ارتكب خطأً شنيعاً وما زال الفلسطينيون يكررونه حتى اليوم، هو تحدي سلطات الدول التي آوتهم وتحريض مجتمعاتها عليها، وأحيانًا معايرة المجتمعات نفسها بالخيانة والعمالة للإمبريالية. في النهاية فشل الجيل الثاني بسبب صراعاته مع بعضه وتم احتواؤه بكذبة كبرى اسمها اتفاقية أوسلو التي عقدتها منظمة التحرير الفلسطينية مع العدو برعاية غربية دون استشارة أو موافقة أي طرف عربي. هكذا استنبتت إسرائيل تدريجياً سلطات فلسطينية صورية في الضفة الغربية وغزة مهماتها الرئيسة ضبط الأمن الإسرائيلي والمتاجرة بالأرزاق ومواد البناء والشعارات وبالعمالة المتعددة الأطراف.
هكذا ارتكب ورثة الجيل الفلسطيني الثاني أفدح الأخطاء في حق الفلسطينيين وقضيتهم ثم في حق الهوية العربية وخصوصاً عروبة الجزيرة العربية (يسمونهم عرب النفط) تمييزاً تحقيرياً لهم عن العرب الآخرين، وهذه بعض الأمثلة على الأخطاء:
أولاً: أخطاء سلطات رام الله وغزة في حق الفلسطينيين، التنسيق مع الأمن الإسرائيلي لإجهاض احتجاجات الشباب الفلسطيني، مع التركيز على توفير حياة مرفهة وتعليم عالٍ وجنسيات أجنبية لبناتهم وأولادهم وأحفادهم. أهم من ذلك كانت المتاجرة بالأرزاق ومواد البناء والصحة والتقريب والإبعاد حسب الولاء الشخصي. هذا الفساد لحيتان الفساد فتح وحماس يعرفه الفلسطينيون جيداً بالمعايشة اليومية وأصبح حديث الإعلام العالمي في كل القارات.
ثانياً: أخطاء في حق عرب الجزيرة العربية، انطلقت القيادات الفلسطينية في رام الله وغزة من الاعتقاد أن الحكومات الخليجية ومجتمعاتها جدران قصيرة تستطيع ابتزازها بالعمالة لإمارة قطر وللإيرانيين والترك وللإعلام الغربي المضاد لعرب الجزيرة العربية. أصبح برنامجاً متكرراً تقبيل أيادي وأكتاف حكام إيران وتركيا وتبادل الزيارات والمؤتمرات معهم وامتداح ميليشياتهم وعصاباتهم، يقابله تسليط الأبواق السفيهة المأجورة قليلة العدد عالية الصوت للتشنيع على عرب الجزيرة حكومات وشعوبًا وأوضاعًا اجتماعية.
بعد كل ذلك يبقى الخطأ المدمر الذي ارتكبته القيادات الفلسطينية أثناء الفتنة الخليجية العربية الكبرى لغزو العراق الأحمق والغادر للكويت ونهبه وتشريد سكانه. في تلك الفتنة المدمرة لم تستغل القيادات الفلسطينية ومثقفوها رصيدها الحقوقي والأخلاقي من تجربة الاحتلال والتشريد الخاصة بها، وبدلاً من ذلك جيشت الجماهير الفلسطينية ضد المجتمعات والحكومات الخليجية واصطفت مع الغزو الأحمق الذي رفع معهم شعار تحرير القدس وفلسطين يمر عبر تقويض الأمن العربي في الخليج وإسقاط منظوماته الحكومية والاجتماعية.
والآن أعود للتفاؤل بتعاقب الأجيال الفلسطينية وتبدلاتها، استدلالاً بما جرى لأحفاد المهاجرين في الدول الغربية. الجيلان الفلسطينيان الأول والثاني سيعقبهما بالتأكيد جيل ثالث أكثر وعياً بمحيطه العربي والإسلامي، وأوضح استنكاراً لما سببته حماقات وأطماع عواجيزه المتكسبة بالتعامل المأجور مع من هبَّ ودبَّ من الأجانب، لتربية قططها السمان العائلية والطفيلية ولتأمين عوائلها بالجنسيات الأمريكية والأوروبية.
ختاماً وكمحفز لإقفال هذا الملف، أدعو الجميع إلى البحث عن مشتركات أمنية عربية لصالح الأجيال الفلسطينية القادمة، انطلاقًا من ثقتي بأن حقوقهم لن تضيع، حتى وإن أضاعها آباؤهم وأجدادهم، إذ ليس بالضرورة أن يهدرها الخلف الفلسطيني كما أهدرها السلف منهم.