استيطان المملكة العربية السعودية خلال الألف الثالث قبل الميلاد ثابت بالدليل الأثري المادي المتمثِّل بحقول المدافن الضخمة التي يسكنها أناس كانوا في يوم من الأيام أحياء، ولكن التساؤل يأتي حول عدم تنفيذ أعمال ميدانية تهدف للكشف عن المستوطنات العائدة لذلك الزمن والتي يفترض أنها تزامن وقتياً ومكانياً حقول المدافن الضخمة التي تم العثور عليها في مواطن الاستيطان القديم مثل: جنوب الظهران، وبيرين، وابقيق، والخرج، والأفلاج، ووادي الدواسر، والفاو، وتيماء، ومدائن صالح، وخيبر، وحرة عويرض. توجد مستوطنات الألف الثالث في دول شبه الجزيرة العربية بالقرب من المدافن العائدة لذات الفترة، بينما في المملكة العربية السعودية لم يُعثر حتى الآن على أي مستوطنة تعود لزمن آلاف المدافن الموجودة في مواقع رئيسة في مختلف أرجاء المملكة العربية السعودية والتي تدل على أن عصر ازدهار شبيه بالعصر الذي نعيشه بثرائه قد عم أنحاء المملكة العربية السعودية. إنه من المحزن جداً أن تكون أمامك مستوطنات الأموات الذين كانوا جزءاً من سكان مستوطنات أحياء ذلك الزمن البعيد، فيما أنت عاجز عن اكتشاف مستوطنات الأحياء، علماً أنها حقيقة حتمية أن تكون قد وجدت في يوم من الأيام وإنها باقية في أماكنها؛ وإن لم تكشف لها بقايا حتى الآن، ولكن لا بد من اكتشافها؛ ربما يكون اكتشافها أسهل في المستقبل.
على سبيل المثال عندما اُكتشفت مقابر سار- الجسر في البحرين، وأُجريت فيها الأعمال الإنقاذية نظراً لوجوب أزالت أجزاء منها للانتهاء من تشييد جسر الملك فهد -رحمه الله-؛ بدأت الأعمال الميدانية في الموقع ببعثة عربية مشتركة، ثم بعثة دولية مشتركة، ولم تنته أعمال تلك البعثتين التي لم تستمر لأكثر من أربعة مواسم حتى تم الكشف عن المركب الحضاري لذلك الموقع المكون من: مستوطنة، ومعبد، ومدافن. وفي موقع الدراز في البحرين وجد التكامل الحضاري حيث كُشف عن مدافن، ومستوطنة، ومعبد. وفي موقع قلعة البحرين وجدت آثار دلمون، دولة الألف الثالث قبل الميلاد، ومدنها المتعاقبة. فإلى جانب المدافن وجدت المستوطنة، والمعبد ذو العلاقة.
أما صورة الكشف الأثري في المملكة العربية السعودية وخاصة وسطها الذي يهمنا في هذه الورقة فمختلفة، فلم يكشف مستوطنة واحدة من المستوطنات المعاصرة لمقابر الألف الثالثة، فحقول المدافن الركامية العملاقة التي تم اكتشافها والتي تحتوي على أعداد كبيرة لا بد أنها شيِّدت من قبل سكان مستوطنات ضخمة توجد قريبة من المدافن، تشمل بدءاً بجنوب الوسط مدافن الفاو الركامية التي أسفرت الحفريات فيها عن مواد أثرية من نهاية الألف الرابع وبداية الألف الثالث قبل الميلاد، وأسفر الإحصاء الجوي عن وجود ما يقارب الأربعة آلاف مدفن على امتداد أربعة كيلومترات من السفوح الشرقية لجبال طويق. ألا تقتضي هذه الآلاف من المدافن الركامية التي بعضها يحتوي على أكثر من غرفة دفن أن توجد مستوطنة هي المسؤولة عن تزويد هذه المدافن بأعداد كبيرة من الموتى؟ المنطق والعقل يفترضان وجود تلك المستوطنة، ولكن أين هي؟ لم نستطع الوقوف عليها بعد.
وفي الأفلاج وجد حقل مدافن يمتد لأربعة كيلومترات إلى الجنوب من عين السيح. نفذ د. عبدالله سعود السعود حفريات أثرية في تلك المدافن عام 1408هـ، وثبت من المواد الأثرية أنها تؤرِّخ بالعصر الحجري البرونزي. أين المستوطنة المعاصرة لتلك المدافن؟ سؤال ليس لدي عليه جواباً شافياً، ومع ذلك لا شك أنها إما هنا، أو هناك قرب حقول المدافن الركامية الضخمة.
ويوجد موقع ضخم في جبال الريانية في وادي الدواسر ذكره ليينز في كتابه عن رحلته عام 1951م بصحبة آل ركمانز وهاري سنت جون فيلبي. لا يمكن أن يكون هذا الموقع بقبوره الركامية ومنشآته المعمارية المتنوعة أوجد من العدم، بل لا بد أن يكون هناك مستوطنة هي المسؤولة عن توفير موتى تلك القبور.
ووجد موقع في حوض الخرج يقوم على هضبة القصيعة التي تطل على عيون: الضلع، وسمحه، وأم خيسة من الجنوب الشرقي. قدر عدد المدافن في هذا الموقع بما يقارب من أربعة آلاف مدفن ركامي أغلبها كبير الحجم. نلاحظ أن بيئة الموقع بيئة زراعية استيطانية، وتتوفر فيها عدة عيون لا يزال البعض منها يحتوي على الماء، ويشرف على وادي الخرج الخصب ذي المراعي الوفيرة. وعليه لا بد أن يكون هناك مستوطنة لمن أصبحوا من سكان تلك المدافن، فأين هي؟ لا تزال تنتظر البحث المسحي الميداني ليحدد مكانها تحت الرمال المتحركة وبالقرب من العيون المذكورة.
يقع الموقع الثاني للمدافن الركامية في شمالي حوض الخرج، ويقوم عند عينين في جبال فرزان لم تتوقفا إلا قبل أقل من مئة سنة. يحتوي الموقع على آلاف من المدافن تمتد من الشرق إلى الغرب لأكثر من اثني عشر كيلومتراً.
الدلائل المؤكدة تشير إلى أن حضارات تلتها حضارات جميعها لا تزال تحت رمال بلادنا تنتظر من يكشفها، وبعد اكتشافها أجزم أن هيكل الحضارات في العالم القديم سوف يتغيّر بشكل جذري.
** **
أ. د. عبدالعزيز بن سعود بن جارالله الغزي