خالد أحمد عثمان
تذرَّع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بذرائع شتى لتسويغ التدخل العسكري التركي في ليبيا. ونتناول في هذا المقال هذه الذرائع في ضوء المبادئ والقواعد العامة للقانون الدولي العام وحقائق التاريخ، وذلك على النحو التالي:
أولاً: زعم أردوغان أنه يوجد في ليبيا مليون مواطن من أصل تركي، وأن من واجبه دعمهم والتدخل لنجدتهم والوقوف إلى جانبهم. ولست أدري من أين جاء الرئيس التركي بهذا الرقم، لا أحسب أن في ليبيا إحصائية رسمية للمواطنين بحسب أصولهم العرقية، ومن ناحية أخرى لم تكن توجد في ليبيا مشكلة أقليات مضطهدة اضطهاداً يستوجب التدخل الإنساني الدولي لإنصافها وحمايتها.
ونذكر في هذا السياق تصريح عقيلة صالح رئيس مجلس النواب الليبي بأن تصريحات أردوغان تستهدف ضرب النسيج الاجتماعي الليبي وإحداث فتنة بين المواطنين، كما أن الناشط السياسي الليبي عبدالرحمن السليمي قال إن أردوغان يبحث عن مبررات واهية ومرفوضة للتدخل في بلادنا. وهذا ما دفعه إلى تسويق مزاعم غير مقبولة بوجود مليون مواطن من أصول تركية يعيشون في ليبيا، مما يستوجب حمايتهم، مشيراً إلى أن الليبيين من أصول تركية لا يتجاوز عددهم 200 ألف مواطن يتوزعون في عموم البلاد البالغ تعدادها قرابة ستة ملايين نسمة.
وأضاف السليمي «إن الدولة العثمانية تورطت قديماً في تسليم البلاد إلى الاستعمار الإيطالي، واليوم يدعي أردوغان أنه حامي حمى البلاد». ورفعت «مجموعة أبناء ليبيا» وهي تضم دبلوماسيين سابقين ومثقفين وحقوقيين مذكرة إلى مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا تتضمن احتجاجاً على تصريحات أردوغان بوصفها (خطاب عثماني استعماري صريح يكشف النقاب عن نواياه الحقيقية الجديدة والقديمة، بإقامة خلافة مزعومة في ليبيا عبر جيوشه المتطرفة من دواعش وقاعدة وإخوان)، وطالبت المجموعة في مذكرتها الأمم المتحدة بالعمل على إدانة تصريحات أردوغان ورفضها صوناً لميثاق الأمم المتحدة.
والواقع أن المواطنين الليبين الذين هم من أصول تركية أياً كان عددهم - وهو قليل - قد تعربوا وأصبحوا جزءاً من نسيح المجتمع الليبي ولا يتميزون عن بقية لأفراد المجتمع لا عرفياً ولا دينياً ولا لغوياً ولا ثقافياً، وذلك فإن أردوغان أراد من هذه الذريعة بذر بذور الفرقة والشقاق في المجتمع الليبي وتفكيك عرى وحدته الوطنية.
كما أن التدخل التركي في شؤون ليبيا تحت هذه الذريعة ينتهك انتهاكاً سافراً المبدأ المستقر في القانون الدولي وهو عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول. ولقد نص ميثاق الأمم المتحدة على هذا المبدأ كما نصت عليه العديد من المواثيق الدولية، نذكر منها قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم (2131) الصادر بتاريخ 31-12-1965 بعنوان (إعلان عدم جواز التدخل في الشؤون الداخلية للدول وحماية استقلالها وسيادتها)، حيث نصت الفقرة الأولى منه بأنه ليس لأي دولة حق التدخل بصورة مباشرة أو غير مباشرة ولأي سبب كان في الشؤون الداخلية أو الخارجية لأي دولة. وكذلك الإعلان الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة بموجب قرارها رقم (2625) وتاريخ 25-أكتوبر 1970م بعنوان (مبادئ القانون الدولي المتعلقة بالعلاقات الدولية بين الدول وفقاً لميثاق الأمم المتحدة)، وأعلنت فيه أنه بموجب هذا المبدأ يُمنع على أي دولة التدخل في شؤون الدول الأخرى. ونص هذا الإعلان أيضاً على أن الالتزام بعدم التدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة أخرى هو شرط أساس لضمان عيش الأمم في سلام.
ولذلك فإن التدخل التركي في شؤون ليبيا تحت هذه الذريعة عمل غير مشروع لكونه لا يستند إلى أي مسوغ قانوني ويشكل اعتداء على حق الدولة الليبية في الاستقلال والسيادة.
وإذا كان أردوغان يعطي الحق لبلاده في التدخل في شؤون الغير بذريعة حماية مواطنين من أصل تركي فإنه وفقاً لمبدأ المعاملة بالمثل، فإن للدول العربية خصوصاً سورية الحق في التدخل في شؤون تركيا بمقولة إنقاذ عرب منطقة الأسكندرونة من سوء المعاملة والاضطهاد العنصري، ومنطقة الأسكندرونة هي أصلاً منطقة عربية وتعتبر جزءاً لا يتجزأ من بلاد الشام سلخها المستعمر الفرنسي من سورية ومنحها لتركيا عام 1939، أي أعطى من لا يملك إلى من لا يستحق. كما أن من حق الأكراد في العراق وسورية التدخل في شؤون تركيا لمساعدة إخوانهم الأكراد في تركيا والوقوف إلى جانبهم ضد تعسف واضطهاد السلطات التركية.
وفي ختام الكلام حول هذه الذريعة يحق لنا أن نتساءل إذا كان أردوغان يعتبر نفسه حامي العرق التركي في الدول الأخرى، فلماذا لم يتدخل عسكرياً لإنقاذ (الأويغور) في الصين، وهم مسلمون وتعود أصولهم إلى الشعوب التركية ويعانون من الاضطهاد والتمييز العنصري ضدهم!!.
ثانياً: الذريعة الثانية إدعاء أردوغان أن ليبيا (إرث عثماني) وكانت ضمن جغرافيتها القديمة، قاصداً بذلك الإشارة إلى أن ليبيا كانت تحت الاحتلال التركي العثماني مدة ثلاثة قرون. وذريعة (الإرث) كمبرر للتدخل في شؤون ليبيا هي من نوع عذر أقبح من ذنب. وهذه الذريعة تتعارض تعارضاً تاماً وجوهرياً مع مبادئ السيادة والاستقلال المستقرة في القانون الدولي. إذ يجب على كل دولة احترام سيادة واستقلال الدول الأخرى، ولو سمح المجتمع الدولي بتطبيق نظرية (الإرث) لاضطرب المجتمع الدولي وسادته الفوضى واشتعلت الحروب بين دول العالم بل ستصبح الحروب بين الدول هي القاعدة، والسلام هو الاستثناء، لأن كل دولة سوف تمد عينيها وأذرعها إلى أقاليم دول أخرى بدعوى (الإرث التاريخي) بحجة أنها خضعت لها ردحاً من الزمن الغابر، وبالتالي فهي من إرث الأجداد الذي يسوغ التدخل في شؤونها والمطالبة باستردادها. إن تطبيق نظرية (الإرث التاريخي) سيكون وبالاً على تركيا قبل غيرها إذ بموجب هذه النظرية يحق لليونان بوصفها وريثة (بيزنطة) التدخل في شؤون تركيا والمطالبة باستعادة السيطرة عليها لأن بلاد الأناضول تعتبر (إرثاً بيزنطياً) لأنها خضعت للحكم البيزنطي قروناً من الزمن قبل أن تستوطنها القبائل التركية التي جاءت إليها من الشمال. بل أيضاً يحق لأي دولة عربية التدخل في الشؤون التركية والمطالبة باستردادها بوصفها (إرثاً عربياً) لأن الجيوش العربية الإسلامية في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - حررت معظم بلاد الأناضول. بل إن العرب المسلمين حاصروا مدينة القسطنطينية (إسطنبول) في عهد الأمويين وكانوا على وشك فتحها.
ثالثاً: مساندة الحكومة الشرعية: يزعم أردوغان أنه يساعد حكومة الوفاق التي يرأسها فايز السراج بوصفها الحكومة المعترفة بها دولياً. وهذه ذريعة باطلة من الناحية القانونية، إذ لو تجاهلنا الرأي القائل بأن حكومة السراج ليس لها شرعية دستورية محلية لأنها لم تنل موافقة مجلس النواب كما يقضي بذلك اتفاق الصخيرات وأخذنا بالرأي القائل بأنها حظيت بشرعية دولية لأن قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2259 وتاريخ 23-12-2015م قد أيد اتفاق الصخيرات والذي بموجبه تشكلت هذه الحكومة، فإن اتفاق الصخيرات حدد مدة ولاية هذه الحكومة بعام واحد يبدأ من تاريخ نيلها ثقة مجلس النواب وأنها قابلة للتجديد تلقائياً لعام إضافي فقط في حال عدم الانتهاء من إصدار الدستور. وحيث إنها لم تنل موافقة مجلس النواب فإن هذه الحكومة ليس لها ولاية البتة، وإذا اعتبرنا جدلاً - جدلاً فحسب - أن قرار مجلس الأمن الصادر في 23-ديسمبر 2015م المؤيد لاتفاق الصخيرات هو الذي منحها الولاية فإن هذه الولاية قد انتهت بتاريخ 23-ديسمبر 2017 (راجع في هذا الصدد مقالنا: من يملك الشرعية في ليبيا في جريدة الجزيرة بتاريخ 17-07-2020م).
وفي الختام نتساءل إذا كان أردوغان مؤمنًا حقاً بالشرعية الدولية، فلماذا يصر على الاعتراف بجمهورية (شمال قبرص التركية) التي أُعلن عن إنشائها في 15-11-1983 بعد أن احتلت قوات من الجيش التركي شمال هذه الجزيرة في سنة 1975، وفرضت تقسيم الجزيرة كأمر واقع، ولذلك فإن جمهورية (شمال قبرص التركية) دولة غير شرعية ورفضت جميع دول العالم الاعتراف بها، تركيا هي الدولة الوحيدة التي تعترف بها، ولا يعترف المجتمع الدولي إلا بجمهورية قبرص وسيادتها على جميع أراضي الجزيرة. وبالرغم من ذلك أخفقت جميع المحاولات الدولية لإعادة توحيد الجزيرة بسبب الموقف التركي المتعنت.
إن من تناقضات أردوغان - وما أكثرها - أن لا يعبأ بالشرعية الدولية عندما يتعلق الأمر بقبرص ويتذرع بها لتسويغ تدخله العسكري في ليبيا وهو يعلم علم اليقين أن حكومة السراج فاقدة للشرعية سواء بمعيار القانون الدستوري أو بمعيار القانون الدولي.
** **
- محام وكاتب سعودي