عبدالرحمن الحبيب
«من الحقائق الغريبة أن آخر أشكال الحياة الاجتماعية المتبقية التي لا يزال سكان لندن مهتمين بها هو تويتر. لقد أدهشتني هذه الحقيقة الغريبة عندما ذهبت في إحدى عطلاتي الدورية إلى جانب البحر، ووجدت المكان كله تغريدات (تويتر) مثل قفص زرزور». هذا النص أنتجه برنامج جي بي تي 3 بعدما طُلب منه كتابة قصة عن تويتر بصوت جيروم كي (كاتب إنجليزي فكاهي)، طلبها أستاذ الفلسفة آنيت زيمرمان (جامعة يورك)، الذي كتب عن النص: يبدو معقولاً بما فيه الكفاية، وحتى بغيضاً بشكل مبهج.
استحوذ هذا البرنامج مؤخرًا على خيال العديد من التقنيين المتحمسين للتطبيقات العملية لنظام يولد نصًا شبيهًا بالإنتاج البشري ويصعب تمييز نصوصه عن الإبداع البشري في مجالات مختلفة من قصص، ومقاطع كوميدية ونكات، وبيانات صحفية ومقابلات ومقالات وحتى قصائد بل وصلت إلى إنتاج مقاطع فكرية وفلسفية يصعب تمييزها عما يكتبه البشر.. وقد تناول المقال السابق النماذج الشعرية والقصصية وكيفية إنتاج هذه النصوص، ومدى جودتها وضعفها.
هذا البرنامج يثير أيضًا العديد من الأسئلة الفلسفية حول حدود هذا الأسلوب في نمذجة اللغة. ماذا يعني القول بأن هذه النماذج تعمم أو تفهم؟ كيف يجب تقييم قدرات النماذج اللغوية الكبيرة؟ هل يمكن أن يكون الذكاء الاصطناعي واعيًا حقًا، وهل ستكون الآلات قادرة على «الفهم»؟ هل القدرة على توليد «الكلام» تعني القدرة على التواصل؟ هل يمكن أن يكون الذكاء الاصطناعي مبدعًا؟ كيف تتفاعل هذه التكنولوجيا مع العالم الاجتماعي بكل تعقيداته؟ هذا ما أجاب عنه مجموعة من الفلاسفة في موقع فلسفي ديلي نوز (Daily nous) نختصرها هنا في جزأين.
بداية مع أكثر ما طرح حول ادعاء البعض اقتراب جي بي تي 3 من الذكاء الاصطناعي العام الذي يشبه ذكاء الإنسان. يقصد بالذكاء الاصطناعي العام هو ذكاء الآلة التي لديها القدرة على فهم أو تعلم أي مهمة فكرية يمكن للإنسان القيام بها، أي قدرته على أداء «الفعل الذكي العام»، على خلاف الذكاء الاصطناعي الضيق الذي يستخدم لدراسة أو إنجاز مهام متخصصة لحل المشكلات أو التفكير أو لعبة محددة.
من ناحية الذكاء العام، يرى ديفيد تشالمرز (أستاذ الفلسفة، جامعة نيويورك) أن البرنامج لا يحتوي على تقنية جديدة رئيسية، بل نسخة مطورة من GPT-2 العام الماضي؛ رغم أنه أظهر تلميحات عن الذكاء العام. كان أداء أنظمة الذكاء الاصطناعي السابقة جيدًا في المجالات المتخصصة مثل اللعب، لكن الذكاء العام الذي تتداخل فيه المجالات العامة بدا بعيد المنال. هناك بالتأكيد العديد من القيود المبدئية على ما يمكن أن تفعله النماذج اللغوية، على سبيل المثال تتضمن الإدراك والتصرف، والاستجابة السلوكية. ولا يبدو أن البرنامج ينوب عن الإنسان، أو أن له أهدافًا وتفضيلات تتجاوز إكمال النص. في نهاية المطاف، مع تقدم الذكاء الاصطناعي، سيتفتت الكثير فكرياً وعملياً، نحتاج إلى التعامل معها بحذر.
أما أماندا أسكيل (عالمة أبحاث) فترى أن البرنامج في معظم المهام بعيد عن المستوى البشري، بل إنه غالباً ما يفشل في التفوق حتى بأفضل النماذج التي يتم ضبطها بدقة، على الرغم من أن قدرته على أداء مهام جديدة بقليل من المعلومات أمر مثير للإعجاب. كما أن قدراته تتفاوت بين المهام وقد تتعارض أجزاء من النص مع أجزاء أخرى في ذات السياق. من هنا، تفتقر إلى هوية أو حالة فكرية متماسكة عبر السياقات. لذا، إذا طلبت من البرنامج نصاً بعبارة «مرحبًا، أنا سارة وأنا أحب العلم»، فستشير إلى نفسها باسم سارة وتتحدث بشكل إيجابي عن العلم. وإذا طلبت ذلك بعبارة «مرحبًا، أنا بوب وأعتقد أن العلم كله هراء» فسوف يشير إلى نفسه باسم بوب ويتحدث بشكل غير موات عن العلم.
في السياق ذاته ينبه كارلوس مونتمايور (أستاذ الفلسفة، جامعة سان فرانسيسكو) إلى قيمة أجواء الحوار، فنحن نُقدِّر قيمة التحدث إلى إنسان في الطرف الآخر من المحادثة. تستند هذه القيمة على الثقة ومعرفة الخلفية والأرضية الثقافية المشتركة. تبدو وسائل تحرير هذا البرنامج وكأنها لغة، ولكن بدون هذا النوع من الثقة، فإنك تشعر بأنها غير طبيعية وربما متلاعبة. فالتواصل في مملكة الحيوان - وهو أساس مهاراتنا اللغوية - يعتمد بشكل كبير على القدرات الانتباهية التي تعمل كأساس للثقة الاجتماعية. لذلك، يعد الاهتمام مكونًا أساسيًا للأنظمة اللغوية الذكية. لا تزال أنظمة الذكاء الاصطناعي مثل GPT-3 بعيدة عن تطوير نوع من إجراءات الانتباه الحساسة والانتقائية اللازمة للاتصال الحقيقي. يجب علينا معالجة هذه المشكلة كجزء من الاستراتيجية العامة لتصميم الآلات الذكية.
خلاصة القول -حسب زيمرمان- هي أن المعنى الاجتماعي والسياق اللغوي لهما أهمية كبيرة لتصميم الذكاء الاصطناعي، فلا يمكننا ببساطة افتراض أن خيارات التصميم التي تقوم عليها التكنولوجيا محايدة من الناحية المعيارية. لا مفر من أن تتفاعل النماذج التكنولوجية بشكل ديناميكي مع العالم الاجتماعي، والعكس صحيح، وهذا هو السبب في أن النموذج التكنولوجي المثالي سيؤدي إلى نتائج غير عادلة إذا تم نشره في عالم غير عادل. يتبع..