د. محمد عبدالله العوين
بالنظر إلى ترتيب تصدر الأجناس الأدبية منذ بداية النهضة الأدبية الحديثة في أدبنا مع بواكير صدور الصحافة التي استهلتها صحيفة أم القرى 1343هـ إلى اليوم نجدها على النحو الآتي: الشعر، المقالة، الرواية على استحياء وضعف وبطء في بداياتها، القصة القصيرة، فعودة إلى الرواية مع تأثير عوامل عدة؛ كالإنترنت وأحداث 11 سبتمبر والبث الفضائي وضعف حضور القصة القصيرة، ثم تصدر السيرة الذاتية قائمة المطبوعات في دور النشر والمكتبات.
ما دوافع إقبال الكتَّاب على تدوين تجاربهم وذكرياتهم وإخراجها بأشكال ومسميات متعددة: سيرة ذاتية، ذكريات، مذكرات، يوميات، تجربة؟
إن الرغبة في إرضاء الذات بسرد المعاناة في الوصول إلى ما حقق كاتب السيرة من تفوّق ونبوغ ونجاح بعد الوصول إلى نهاية المشوار وانفضاض السامر والتقدّم في العمر من أقوى الدوافع وأشدها إلحاحا. والتوق إلى تسجيل ما يعتقد السيري أن الزمن سيمحوه بتقادمه من معلومات وحقائق يرى أنها جديرة بالحفظ والبقاء للأجيال. والتعويض عن الإخفاق في الواقع بتحقيق ما لم يستطع الوصول إليه بادّعاء تميز أو تفوّق أو ذكاء أو عبقرية لم تتح لها فرصة للبروز في الواقع، ونجد هنا تكاذباً وتضخماً في الادّعاء وصمتاً أو تقليلاً من تميز آخرين؛ وكأن السيري هنا ينتقم من خصومه بالكتابة بعد أن عجز عن ذلك في الواقع باللوم والعتاب على من يعتقد السيري أنه كان عثرة في طريق نجاحه. وربما يكون التكسّب بالشهرة سبباً مضافاً إلى ما سبق.
أما أشكال السير فهي: سيرة يكتبها (الأديب) بلغة سلسة سهلة وتصوير فني بليغ لكثير من المشاهد، ويبدع في رسم تفاصيل الصورة الحسية والمعنوية، ويمزج بين قليل من الخيال مع كثير من الواقع، بحيث يغلب الجانب السيريُ الروائيَ . والكاتب الذي يعتمد هذا الأسلوب في كتابة سيرته يعي كل الوعي الفرق الكبير بين فنيين متعالقين يتكئان على أدوات واحدة؛ غير أن الراوي الذكي يعلم كيف يوظِّف أدواته بكل طاقاتها الإيحائية، وكيف يدرك السيري الذكي أيضاً أن إسرافه في استخدام أدوات الرواية قد يدخله في حالة من التِيه الفني فتضيع ملامح السيرة بتداخلها العميق مع خيال الرواية المجنح وتحليقها بعيداً عن الواقع؛ لأن الروائي يبني له عالماً فنياً آخر موازياً للواقع المادي الجاف والمباشر، بينما كاتب السيرة يلزمه فنه ألا يخرج كثيراً عن الواقع المادي المباشر الذي يعنى بتتبع تفاصيله التي هي تفاصيل حياته، فيستعير قليلاً من خيالٍ ممتزجاً مع كثير من واقعٍ مسروداً بلغة فنية راقية يحذر كاتبها أن يقع في مباشرة فجّة تحيل السيرة إلى تقرير وظيفي أو صحافي باهت.
أما السير الأخرى التي تكتب كتقرير عن الحياة منذ الولادة والطفولة ثم الشباب والمراهقة فالنضج والعمل ثم الشيخوخة فهي كتابة توثيقية جافة لا طراوة فيها ولا حلاوة، ولا خيال ولا تصوير ولا وصف، وهي سمات غالبة على كثير مما يكتبه غير الأدباء؛ كالأطباء والمهندسين والصحافيين ورجال الأعمال ونحوهم ... يبتع