فهد عبدالله العجلان
حقوق الإنسان هي فكرة العصر، مقولة أطلقها باحثان أكاديميان غربيان في عام 1986م، هذه الفكرة أضحت اليوم أحد أهم المحددات في العلاقات السياسية الدولية، فالمفهوم الذي أنتجه الغرب بممارساته الحديثة، وبدأت بذرة خطابه المعاصر في الإعلان العالمي، لحقوق الإنسان عام 1948م، رغم ما يحمله من مضامين إنسانية طرحت حقوق الإنسان في إطار عالمي، إلا أن تحوله في شواهد عديدة إلى أداة للتدخل السياسي أخفق في جعله إطارًا للحوار العالمي قابلاً للتطور تنظيرًا وتطبيقًا على المستوى الثقافي العالمي. فلا يزال الطرح الغربي المرتبط بحقوق الإنسان متهمًا بالتحيز في نظر الكثيرين -على الرغم من أن جذوره تمثل أرضية مشتركة في جميع الثقافات-، مع أن الباحث الراصد لتطور هذا المفهوم يدرك بوضوح ارتباطه بمراحل مفصلية في التاريخ الإنساني، وأن بعض ممارسات التسييس المعاصر حرمت هذا المفهوم النبيل من آفاق حوار عالمي ثقافي يمكن أن يكون أساسًا لوعي إنساني فاعل ومستدام.
المبالغة الغربية التي كرّست تقديم هذه المفاهيم كنتاج موضوعي لمرحلة القرن التاسع عشر المرتبطة بعالم ما بعد الاستعمار، وكأنه هدية غربية للبشرية أجمع، فشل في إقناع العالم بأن حقيقته امتداد لثقافات متأصلة تتجاوز البعد الغربي لها وإن كان شريكًا معها. فالطرح الغربي الاستعلائي خلق انطباعًا عالميًا أن كل الثقافات الأخرى معادية لحقوق الإنسان!
في المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان في فيينا عام 1993م طرحت مجموعة من الدول الآسيوية وعلى رأسها الصين وإندونيسيا وماليزيا رؤية مضادة للسائد حول هذا المفهوم، مفادها أنه ينبغي النظر إلى حقوق الإنسان في سياق البعدين الحضاري والثقافي لوعي الثقافات الأخرى بتطبيقاته، ما حدا ببعض الباحثين الأوروبيين إلى وصف هذه الأطروحات بأنها استهداف أيديولوجي لإيقاف عالميتها، لكن بعيدًا عن هذا الرأي ومضاده، يمكن القول إن أي أطروحات مخالفة جديرة بأن تكون أرضية خصبة لتفعيل الحوار العالمي الذي يتضمنه روح الإعلان العالمي لحقوق الإنسان نفسه، ما يخلق واقعًا أفضل لتبادل الوعي بهذا المفهوم بعيدًا عن الصراع وفرض القوة والرأي الواحد الذي يتنافى مع صميم الدعوة إلى هذه الحقوق!
من المهم الإشارة إلى أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في 10 ديسمبر من عام 1948م كان أرضية مصالحة أو توافق فكري بين الليبرالية الغربية والفكر الاشتراكي ليكون بذور شراكة تضمنت في رحمه مفاهيم الثورة الفرنسية 1787م وإعلان الاستقلال الأمريكي 1776م، المتمثلة في الحقوق المدنية والسياسية وكذلك قيم الثورة البلشفية في 1917م التي احتوت الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ونظّرت إلى أنها حق وليست حرية بالمفهوم الفلسفي والقانوني، ويمكن القول إن هذه المصالحة كانت بعد الإعلان العالمي نواة العهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
كثيرًا ما يتم الخلط بين حقوق الإنسان كمفهوم منتمٍ إلى الحقوق الأساسية، كما جاء في طرح جون لوك وجان جاك روسو، وحقوق المواطن الذي ينبغي أن يحترم حقوق الدولة وأنظمتها وحماية كيان الدولة الذي ينبغي أن يحدد حدود هذه الحريات بما يحقق قيم العيش المشترك، ومع الأسف أن أغلب الطرح الإعلامي، وخصوصاً الغربي يسهم في تكريس ضبابية هذه الفكرة وتغييبها عن القراء أو المشاهدين لشيء في نفس يعقوب!
اليوم يمكن الجزم بأن نقاش عالمية حقوق الإنسان بات حديثًا من الماضي؛ فقد وصل الاهتمام بها أن أصبح مفهوم الأفضلية بالتعامل بين الدول مرتبطًا بتطبيقات ووعي حقوق الإنسان، ويتزعم هذا الاتجاه الاتحاد الأوروبي الذي برزت تطبيقاته بتطور مفهوم القانون الدولي بتحويل حقوق الإنسان من شأن داخلي محض إلى شأن عالمي تسري عليه تطبيقات هذا القانون، وهو ما كانت نواته الحقيقية وشرارته الأولى صدور ميثاق الأمم المتحدة في عام 1945م من رحم جراح وآلام الحرب العالمية الثانية، الذي نص على ضرورة تكريس السلم والأمن الدوليين كشرط لخلق بيئة صحية لحماية حقوق الإنسان، باعتبار أن الدول التي تملك عقدًا اجتماعيًا يجعل الشعب مصدرًا للسلطات هي الحصن المانع للحروب والانتهاكات التي تنقض هذه الحقوق أو تنتقصها، لكن السؤال: هل فعلاً هذه المجتمعات لم تكن ذاتها أداة للحروب والاعتداءات ومصدرًا لانتهاك حقوق الإنسان، هذا موضوع قد يتطلب مقالاً أو دراسة مستقلة عن هذا المقال!
لا بد من القول: إن المعاملة التي تعرض لها من تشربوا مفهوم حقوق الإنسان الغربي في الدول التي لا تملك نسيجًا ووعيًا اجتماعيًا متجانسًا في مسار التنمية قد أزّم العلاقة بهذا المفهوم في إطاره المعاصر، فالطلاب الصينيون الذين سحقوا في ميدان تيانانمين قبل ثلاثين عامًا كانوا على قناعة بأن دفاعهم عن حقوق الإنسان يمثل تضحية كبرى، في الوقت الذي يعتقد البعض بأن بعض الدول الغربية استخدمت آلامهم وجراحهم لتحقيق مكاسب أنانية بعيدة عن أهدافهم، والحقيقة أن اليسار الإقصائي المشبع بأطروحات الحرية لم يكن إلا مضخة فكرية لتأزيم الوضع على الأقل في القضايا الاجتماعية مع الشعوب الأخرى، دون أدنى احترام لحقوق الإنسان التي تستند إلى وعي ثقافي أكثر شمولاً من المرجعية اليسارية، ولعل أطروحات أزمة المناخ القديمة المتجددة أصدق مثال على ذلك، فمن السخرية أن ينجرف مثقفو الدول النامية للحديث ليل نهار عن أزمة المناخ في ظل أزمات إنسانية أكبر تتعلق بأبسط أبجديات الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي ربما تمثل الأولوية لتحديات بلادهم!
في ظل صراع حضاري وثقافي عالي الحدة خلال العقود الماضية طورت ثقافات عديدة أو استعادت من رحم ثقافاتها القديمة المستندة إلى الأديان أو الأعراف، مفاهيم مستقلة عن الطرح الغربي لهذا المفهوم، تجلت أبرزها في رؤية صينية مختلفة لحقوق الإنسان وكذلك تحفظات عديدة لدول إسلامية وغير إسلامية لقضايا متعددة مرتبطة بحقوق الإنسان، فالثقافة الصينية الكنفوشيسية استنهضت مفاهيم حقوق الجماعة أو الأمة وواجبات الأفراد لتحقيقها في مواجهة الليبرالية الغربية التي تضع الفرد وحقوقه أساسًا لبناء الدولة، كما أن عددًا من الدول الإسلامية والعربية لا تزال رغم سطوة المفهوم الغربي لحقوق الإنسان على تشريعاتها ومراجعاتها تصارع لحماية مفهوم الأسرة والعلاقات الاجتماعية الراسخة في ثقافتها، لكن عولمة مفهوم العقد الاجتماعي الغربي في إطاره الحديث لا تزال أداة فاعلة في التأثير في العالم لتبني الفكرة الجديدة لحقوق الإنسان.
من الدارج في حديث السياسيين والنخب في المنطقة العربية خصوصًا والعالم النامي عمومًا -الصين لا تزال تصنف في المؤسسات الأممية بهذا التصنيف- أن ملف حقوق الإنسان ملف سياسي من أجل لَي ذراع الدول الأخرى وخصوصًا النامية للتدخل بين المواطن وحكومته، وقد يكون في هذا الوصف شيء من الصحة غير أنه في نظري يمنح الطرح الغربي رضا وسعادة مضاعفة كون هذا الخطاب يؤصل لدعواهم بأن الغرب مهد هذه الحقوق وحضنها الأحنى، بل المتحدث الأوحد باسم حقوق الإنسان والمدافع عنها في العالم المعاصر! وأعتقد أن نقاشًا كهذا قد تجاوز الأساس الأهم الذي يمكن استقصاؤه في طرح عدد من الباحثين، وهو: هل حقوق الإنسان ينبغي أن تكون مقدرة في الوجدان الإنساني أم لا؟ بدلاً عن الجدل حول نشأتها ومن يزعم المجد بحمايتها!
يرى البعض أن طرح ومراجعة قضايا حقوق الإنسان من جذورها مسألة أكاديمية لا يمكن نشر مراجعاتها على الناس باعتباره يمثل قفزًا على الواقع وتجاهلاً لما استقر فيه من معاهدات واتفاقيات، وقد يبدو هذا الرأي منطقيًا لكنه في نظري يتجاهل حقيقة أن مفهوم حقوق الإنسان قد انطلق من عقاله التنظيري، بل والتطبيقي إلى آفاق أكثر فاعلية وتأثيرًا من أروقة الجامعات ولقاءات النخب والمفكرين، وبل حتى الصكوك الدولية والمعاهدات، إلى سلاح يستهدف الوجود الثقافي والحضاري للتنوع والتعددية العالمية!
تأسيسًا على ما سبق، فقد يصبح تطور هذا المفهوم اليوم وتسييسه بوابة لتهديد التماسك السياسي في بعض الدول، خصوصًا تلك التي تملك تنوعًا حضاريًا وثقافيًا لم تزل غير قادرة على استيعاب التشريعات والتنظيمات والتطبيقات التي تحافظ على لُحمته، فالعارفون باتجاهات مطابخ اتفاقيات حقوق الإنسان يدركون أن الجيل الرابع من حقوق الإنسان المتمثل بحقوق الجماعات الاثنية والثقافية قد اشتعلت شرارته مبكرًا، فالطرح العالمي لحقوق الإنسان تجاوز حدود الجيلين الأول والثاني من هذه الحقوق، والمرتبط بالحقوق الأساسية التي تضمنها العهدان الدوليان، بل وحتى أدبيات الجيل الثالث المرتبط بحق التنمية إلى حقوق الأقليات والمجموعات الاثنية والثقافية داخل الدولة، وهو ما أراه تطورًا في مفهوم إدارة حقوق الإنسان والسعي لتحقيقها بمفهوم أشمل، لكن واقع بعض الدول، وخصوصًا العربية والإسلامية، قد يواجه تحديًا كبيرًا في هذا الشأن، نظرًا للعلاقات المتأزمة بينها وبين المجموعات الثقافية والدينية فيها، وهو ما ينبغي التنبه إليه مبكرًا لكي لا يكون بوابة لعدم الاستقرار والتدخل الخارجي.
أخيرًا فقد لفت نظري موقف استثنائي في تقديم صورة متقدمة في تطبيق حقوق الإنسان في الدول العربية والإسلامية تزعمته المملكة العربية السعودية في معقل منظري هذه الحقوق، وقد يتجاوز التشريعات والممارسات الغربية والعالمية في هذا الشأن، حين تحدث سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في زيارته إلى الولايات المتحدة الأمريكية وفي حديثه لقناة CBS حول قانون تتبناه المملكة بعدم تمييز الأجور بين الرجل والمرأة في القطاعين العام والخاص، وهو ما تعانيه أمريكا وأوروبا حتى اليوم، فقد نشرت فيليس كلاين أستاذة إدارة الأعمال -مؤخرًا- تقريرًا في BBC تتحدث فيه عن التمييز الخفي في الأجور بين الرجل والمرأة في الولايات المتحدة الأمريكية، مشيرة إلى أنه وحتى يوليو- تموز الماضي، حصلت المرأة في المتوسط على 84 سنتاً مقابل كل دولار يحصل عليه الرجل، وهو الفارق الذي أكَّدت أنه أثار اهتمامًا كبيرًا بين الباحثين ووسائل الإعلام، كما رفعت دعاوى قضائية تتعلق بالتمييز على أساس الجنس، وبعيدًا عما طرحته فيليس في تقريرها، فمن السخرية أيضًا التأكيد على أن هذا التمييز لا يزال يمارس في قلب هوليوود نفسها معقل اليسار الأمريكي ونفوذه الذي يقدم نفسه كحامي حقوق الإنسان في العالم، ويتطوع بتقديم المحاضرات والمواعظ لشعوب العالم وحكوماتها، ولذا فإن مثل هذا الطرح الذكي والعميق الذي قدمه الأمير محمد بن سلمان، يؤكد أننا يمكن أن نكون في الصفوف الأولى لحماية حقوق الإنسان كأساتذة، وليس مجرد تلاميذ في صفوف الدرس إذا ما أدركنا أن الإصلاح عمل نمارسه بإرادتنا وبقيم ثقافتنا التي أسهمت في تطور حقوق الإنسان على مستوى العالم.