د.عبد الرحمن بن سليمان بن محمد الدايل
كثيرةٌ هي الحيرة والدهشة التي تصيب كل َّ مَنْ يُمعن التفكير فيما آل إليه واقع الصداقات في عالمنا اليوم، حتى صِرنا نبحث عن الصديق الافتراضي الذي يُمكن أن يمثِّل الصديق الحق الذي يعيد لنا الثقة في الصديق، ويترجم لنا العديد من المقولات والصفات التي تغنَّى بها الأدباء والشعراء، وازدحمت بها كتب المؤلفين حول الصداقة.
وأظنك أيها القارئ الكريم لست بعيدًا عن هذا الواقع، بل تشاركنا أيضًا بقدرٍ من الاستغراب إذا ما فكَّرت في مصير الصداقات التي مرَّت بك في حياتك، كم كانت؟ وكيف قامت؟ وكم استمرَّ منها على عهده القديم من الصداقة؟ وكم منهم جَرَفتْه سيول الحياة من حوله فنسيَ كلَّ ما كان يُبديه من صداقة، وما يُظهره من مودة، أو يتظاهر به من أُخوَّة خادعة، جعلتك في يوم من الأيام تقع فريسةَ خِدَاعِه حتى ظننت أن الصداقة الحقيقية قد تجسَّدت فيه، بل ذهب بك حُسن الظن فيه بعيدًا حتى تعايشت في صداقته، وتعاملت معه وأنت تثق وتتمسك بالقول الشائع «رُبَّ أخٍ لك لم تلده أمك»؛ فتفانيت في صُحبته، وبذلت الوقت والجهد، والفكر والنصح، والقول والعمل من أجل مَنْ صادقته، وربَّما عرَّضتَ نفسك للمشكلات من أجله، وكأنك كنت تتمثل وتجسِّد قول القائل:
إنَّ الصديق الحقَّ مَنْ كان معكْ
وقد يضرُّ نفسَه لينفعكْ
ومَنْ إذا رَيْبُ الزمانِ صَدَّعك
شَتَّت فيكَ شملَه لينفعَكْ
وهكذا استمرت حياتك مع الأصدقاء، مودةً وعطاءً، وإخلاصًا وتفانيًا في إطارٍ من حُسن ظنك فيه، وصفاء سريرتك نحوه.
ولعلك بعد فترة من الزمن تبدلت الأمور، وتغيرت الأحوال، وأخذت تعيد النظر في أحوال أولئك الأصدقاء لتتساءل: كيف قامت تلك الصداقات؟ وعلى أي عوامل تأسست؟ وكيف أحاطوك بمشاعر المودة والصحبة والثقة والتقدير فترةً من الزمان، حتى شعرت أن الصداقة الحقيقية قد تجسَّدت فيهم بما سمعته من حلاوة القول، والتفاؤل حول مستقبل الصداقة؟ ثم ما لبث هذا الزخم والتفاؤل أنْ تلاشى بمرور الأيام، وكذلك تتبخر مشاعرهم التي كانت فيَّاضة، وتتحول إلى سراب يدفع إلى المزيد من الدهشة والعميق من الاستغراب.
إن مثل هذه المواقف التي يتعرَّض لها ويصطدم بها الكثيرون في حياتهم مِن هَجْر الصديق وابتعاده، بلْ انقلابه وغَدْره أحيانًا، تترك لديهم تساؤلات مبعثها أنهم تفانوا في الإخلاص للصديق، ونظروا للصداقة نظرة ًراقية متحضِّرة، وارتقوا في سلوكهم نحو أصدقائهم؛ ليترجموا الخُلُق الإسلامي الذي أعلى شأن مَن تحابوا في الله، أولئك الذين بشَّرهم سيد الخلق محمد - عليه الصلاة والسلام - بقوله: «قال الله عزَّ وجلَّ: المتحابُّون بجلالي في ظلِّ عَرْشي يومَ لا ظلَّ إلاَّ ظِلِّي». كما بشرهم عليه الصلاة والسلام أيضًا بما رواه عن الله عزَّ وجل: «قال: قد حقَّت محبتي للذين يتحابُّون من أجلي، وقد حقَّت محبتي للذين يتزاورون من أَجلي، وقد حقت محبتي للذين يتباذلون من أجلي، وقد حقت محبتي للذين يتصادقون من أجلي» رواه أحمد والطبراني.
وهكذا تكون ثمار الصداقات الخالصة في الله، البعيدة عن مصالح الدنيا الزائلة، تكون ثمارها محبة الله ورضاه، وذاك أسْمى ما يسعى إليه المسلم في حياته؛ وهو ما يجعلنا أمام واجب أن نقيم صداقاتنا خالصة لوجه الله الكريم، وأن ننتقي الصديق الذي يستطيع أن يُقيم ويؤسس صداقته معنا قويةً سليمة خالصة من شوائب المصالح الدنيوية التي تجمعُ ثم تُفرِّق، وتقرِّب ثم تُباعِد.. فصداقة المصلحة لا تدوم؛ إذ تنقضي بانقضائها، وما كان لله دام واتصل، وما كان لغيره سبحانه انقطع وانفصل.
فما أحرانا في حياتنا وعلاقاتنا الاجتماعية أن نتعلَّم ونُعلِّم غيرَنا كيف تكون الصداقة الحقة؛ لنجني ثمارها في الدنيا حياة آمنة هانئة، وأُخوَّة صادقة خالصة، وننعم برضا الله وجناته في الآخرة.
وفقنا الله جميعًا لما يحبه ويرضاه.
** **
- وكيل الوزارة بوزارة الثقافة والإعلام سابقًا