مها محمد الشريف
مرة أخرى في هذا القرن يتعرض الاتحاد الأوروبي لاختبار وجودي لهذا الكيان العريق الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية بفترة قصيرة، فبعد أزمة اقتصادية خانقة أربكته نتجت عن الأزمة المالية العالمية 2008م تطفح على السطح أزمة سياسية لا تبدو بسيطة أو صغيرة. بل هي تمثل اختباراً حقيقياً لأوروبا ومدى تماسكها ووحدتها في وجه أطماع تركيا بشرق البحر المتوسط بالقرب من سواحل اليونان وقبرص فقد ازداد عدد اللاعبين بالمنطقة وقد باشروا مهامهم بكل قوة، فهم يواصلون جهودهم من أجل الحقوق التي يبحثون عنها، فجمهورية قبرص؛ وهي دولة عضو في الاتحاد الأوروبي تقوم برسم الحدود من جهة الغرب، لكن تركيا أبدت معارضة شديدة لهذه الخطوة في ساحة الصراع، وهو ما أدى في الوقت الراهن إلى بذل مزيد من مساعي جمهورية قبرص إلى رسم حدودها البحرية من جهة الغرب، وتمسكُها بذريعة أن شمال قبرص الذي تعرض لغزو تركي سنة 1974، من حقه أيضا أن يستفيد ويمد منطقته الاقتصادية أيضا.
وفي ظل هذا الخلاف وتباين الموقف التركي بين الرضوخ لأوروبا والعنجهية المعتادة منهم، ربما نتساءل عند هذه المرحلة عما إذا كان من الممكن أن أوروبا قادرة على لجم أردوغان وتحجيم طموحاته الاستعمارية، وهل يمتلك القدرة على مواجهة أوروبا، أم أنه مدعوم من أمريكا وروسيا لإشغال الأوروبيين؟، فثمة خطأ آخر يعد من نفس درجة أخطاء تركيا التي ينفذها رئيسها وهي ترسيم حدود بحرية خاصة بها، على نحو يتقاطع مع النطاق الذي حددته جمهورية قبرص لنفسها، وهذا الأمر يمثل منعطفاً لنزاع كبير حول مناطق مهمة في شرق الأوسط.
يمكن القول بلا أي تخمين او تفكير إن العقاب الذي سيناله أردوغان سيحرر أوروبا من عجزها المعتاد، بعدما كانت لا تستطيع أن تحل مشكلاتها وحدها دون تدخلات من أمريكا حتى لو وقعت على حدودها، ولكن ضعف موقف تركيا أمام أوروبا اليوم وأمام اليونان، سيتوقف التقدم ويجهز على الغطرسة والتهور التركي، فعالم اليوم المضطرب لن يغرق في الخوف والقلق مجدداً، فلم تتأخر أثينا لتبسط سيادتها على جزر تبعد بكيلومترات قليلة فقط عن البر التركي.
إن الأحداث الأخيرة تحتاج إلى الوقت وكذلك الوضوح وثم إدارة تلك الأحداث، وبعد تصاعدها أصبحت دول أوروبا أكثر مسؤولية فهناك أخطار لا يمكن تجاهلها، حيث دعا وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي، إلى الحوار والمفاوضات لتجاوز التوتر في شرق البحر المتوسط، بين تركيا واليونان وقبرص.
فهل هذا يمثل اختباراً حقيقياً لاتحاد أوروبا وإمكاناتها العسكرية والسياسية؟، بعد أن قالت اليونان والاتحاد الأوروبي إن عمليات التنقيب التركية في المنطقة غير قانونية، بينما تؤكد تركيا أن هذه المواقع تقع ضمن منطقتها الاقتصادية الحصرية، وسبق أن أدانها الاتحاد وطلب منها التوقف عن التنقيب، ولكنها استأنفت عملها في عمليات التنقيب عن النفط والغاز بعد اتفاق ترسيم الحدود بين اليونان ومصر.
المواجهة الأوروبية التركية ستكون حافلة بالأحداث والمفاجآت ولا يمكن للأتراك أن يتمادوا في موقفهم لولا تلقيهم دعماً خفياً من قوى تريد إرباك أوروبا وبنفس الوقت فإن تطلعات الأوروبيين لاستعادة دورهم الدولي الذي ينطلق من البحر المتوسط لا بد وأن يجبرهم على الذهاب بعيداً بمواجهة تركيا التي تدخل هذا الصراع محملة بأعباء اقتصادية معقدة وانهيار في عملتها ولذلك تظهر بأنها تقوم بمقامرة سياسية بعد أن خسرت في عديد من المواقع التي تدخلت بها وأحبط الكثير من مخططاتها فهي تحاول أن تفرض سياسة أمر واقع قبل الدخول في مفاوضات مع الأوروبيين لكن ذلك لن يكون أمراً متاحاً في ظل يقظة الأوروبيين خصوصاً فرنسا التي بدأت تتحرك بطريقة هجومية على غير المألوف منها حيث ركزت سابقاً على اتباع الدبلوماسية في قضايا عديدة لكن كونها تدرك أهمية شرق المتوسط خطورة أن تحظى أي دولة من خارج الاتحاد الأوروبي بمزايا فيه، وهو ما دعاها إلى التحرك عسكرياً والذهاب لأبعد مدى في هذه المواجهة إذا دعت الضرورة فهي القائد سياسياً وعسكرياً لدول الاتحاد الأوروبي.