د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
(1)
** في مساء يوم موته فاجأها القمر، لم تره منذ أمد؛ فالسقفُ عائقُ بصرٍ كما هو قيدُ بصيرة، وبعفويتها عبَّرت عن اختلاط مشاعرها؛ فقد غابت شمسه ليبزغ قمرها، وهي حكاية لا يعيها إلا متدثرٌ بإعتام همّ أو مورقٌ بقلبِ أم، ولم يمكث القمر طويلًا بعدما طواه رحيلها، ولم تأت شمسٌ لتضيء موقعَها ولا قمرٌ ليسدَّ إيقاعه.
** حكاية مرَّ عليها أربعون عامًا (1401هـ)، ولم تكن كحكايات الجدَّات «المُؤسطرة» بل هي نزف القلوب المتدثرة التي لا تألفُ مقعدًا ولا تطيل قعودا.
** انطفأ قلبها سريعًا بفاصل أشهر (1402هـ)، وغابت الجدة «نورة العبدالله الخراز» بعد غياب ابنها الخال «عبدالله الصالح الرّعوجي» - رحمهما الله - وكأنها أكملت دورها في رعايته فلم يكن له سواها وكان لسواه غيرُها.
** بدت الأعوامُ أيامًا؛ فقد مضى الزمن وكأنه موثوقٌ بجهاز تحكم يُسرّعُ الصورة ويبطّئُها فيتوقف لحظةً ويتجاوز لحظات، ولا مجال لمفكرٍ أو مدّكر؛ فالوقت يزاحم الوقت، والحكاية تمحو الحكاية، وما سرَّنا يومًا ساءنا أيامًا، وهل ثَمَّ ما يسوءُ أكبرُ من الفقد، وهل ثَمَّ أمضُّ من الوجد؟!
(2)
** قبل عام (3-9-2019م) غاب الوالد -رحمه الله- بفُجاءةٍ لم نألفْها؛ إذ رسم حياتَه الترتيبُ والتخطيط، حتى في الزيارات اليوميّة والسفرات النمطيّة، لكنه هذه المرة لم يشأ بل شاء الله، ولم نعلم فهو -سبحانه- العليم.
** الحياة فوارق توقيت، والحزنُ إيجابيٌ متى أردناه أو أدرناه؛ فلم يمرّ العام حتى كانت سيرته كتابًا، وكان الأخصُّون يعرفونه فانضمَّ الأكثرون، وترحم عليه الأدنَون فشاركهم الأبعدون، ورعى أعمالَ خير فبات له أمثالُها، وصار البعد قربًا، والتقصيرُ برًا، والغدُ وعدًا وعهدا.
** لم يمت كلُّه؛ فهذا يقين لم يحتج إلى إجابة تساؤلِ «المهلهل» حين نُعي إليه أخوه «كُليب»، وكذا العزاءُ الحق؛ لا يتأطرُ بوقتٍ ولا يأتسر لمؤقّت، والأقدارُ لا تستجيب لنوح الباكين أو ترنم الشادين - وفق نظرية «أبي العلاء»- وأيقنّا مع «أبي الطيب» بحِياديّة الأحداث:
ألا لا أُري الأحداثَ حمدًا ولا ذمّا
فما بطشُها جهلًا ولا كفُّها حلما
** كلُّ ما مرَّ ويمرُّ بنا لا يتآمر علينا مثلما لا ينتظر أوامرنا، وفي بعضه ابتلاء، وفي غيره هباء، وحياتنا مرتهنة بيوم وعدٍ يُنصف ووعيدٍ ينتصف، والرحيل حتم، وفي الغياب ما لا يملؤه حضور.
(3)
** صار شروقُ الشمس وسمَه وغروبُها رسمَه؛ فكوَّنَا ذاكرةً عصيّةً استعادت شاعرتَنا الجليلة «تماضر بنت عَمْرٍ السّلمية» مع شقيقها «صخر».
** لا شأن لنا بزمانٍ ولا مكان ولا إنسان؛ فالقمر لن ينطفئَ من أجلها، وظِلُّ الأحياء موصول بإرثهم؛ وما قد يُظنُّ نهايةً هو الابتداء.
** للعدميين أن يحتفظوا بفلسفاتهم المؤطرة بعبثية المجيء والمغادرة، أما نحن فقد أتينا ونحن ندري المسير ونذهب ونحن نعرف المصير.
(4)
** الشمسُ لا تغيب والحزنُ لا يعيب.