مع موضة انتشار مدربي تطوير الذات اختلطت معاني بعض المفاهيم الحياتية، منها مفهوم الإيجابية. علمًا بأن علم التنمية الذاتية وتطوير الذات من العلوم المهمة، لكن بشرط تعلُّمه من المصادر الصحيحة. وبشكل عام، هذا التطرف وارد, حاله حال العديد من العلوم عندما يتحدث عنها ويمثلها أشخاص ليسوا من أهلها، ولا يملكون مؤهلات لذلك؛ فتظهر هذه الإشكاليات وسوء الفهم للأمور. وقد يكون بعض اللوم على المتلقي أحيانًا؛ لأنه يجب أن يبحث عن المصادر الموثوقة الصحيحة, وليس من مشاهير مواقع التواصل الاجتماعي, أو مدربين غير ثقة، ومن لا يملكون معرفة ولا مهارة.
فما إن يراك أحدهم حزينًا أو مستاء حتى يبادر بنصحك (خلك إيجابيًّا). والمقولة المشهورة (ابتسم في أحلك الظروف). هذا التصرف يجعلنا نتساءل؟ ما هي الإيجابية؟ وكيف تكون إيجابيًّا؟
الإيجابية باختصار هي العيش في الواقع، والتفاعل مع أحداث الحياة، بشقَّيها السلبي والإيجابي، وتصحيح هذا الواقع بالنقد، وإيجاد الحلول التي تساعد على التطور والتقدم.
الإيجابية أيضًا هي فهم ماهية مشاعرك، والتفاعل معها، وعدم تجاهلها، سواء كانت مشاعر مرتفعة أو منخفضة. بمعنى أن تتفاعل مع أحداث الحياة بصورة طبيعية، كأن تحزن وقت الحزن، وتفرح وقت الفرح.. فهذا مؤشر على أنك إيجابي، يستطيع أن يشعر بمشاعره، ويفهم محيطه بشكل متزن طبيعي. فالاعتراف بالواقع وعيش المشاعر اللحظية بدون أقنعة مطلوبٌ؛ فنحن لسنا (روبوتات) وآلات لا تملك إحساسًا. نحن كائنات بشرية، تملك خاصية الإحساس والشعور؛ ونحتاج إلى أن نعبِّر عن مشاعرنا بصدق تبعًا لما نمرُّ به.. بل إن ذلك مطلوب؛ لكي تتجنب كبت المشاعر؛ ففي هذه الحالة سيدفع الجسم هذا الضغط، وسيترجَم على شكل ألم أو مرض؛ لذلك أن تكون إيجابيًّا هو أن تسمح لنفسك بالتعبير عما تشعر به، وبعدها تسمح لهذه المشاعر بالرحيل. فكما قال الكاتب غاي فينيلي «إن مشاعرك، سواء جيدة أو سيئة, ليست سيدة حياتك, إنها مجرد لحظات داخلها» فبالتالي من حقك أن تعبّر عنها وتعيشها، ما دامت مجرد جزء صغير من حياتك. فنحن خُلقنا لنشعر ونتعلم من إخفاقاتنا ونجاحاتنا.. دروس وعِبر.. وبهذه الطريقة نتطور. لكن النقطة المفصلية هنا في الاعتراف بهذه المشاعر بنوعيها هي الوسطية والاعتدال.. فلا يعقل أن تعيش عمرك كله حزينًا، أو في حالة غضب وإحباط ويأس، وإلا سيتحول هذا الحدث إلى برمجة دائمة، ويحتاج إلى تدخُّل وطلب مساعدة من معالج مختص، أو أن تعقد العزم وتستيقظ روحيًّا وتتخلص من هذه السلبية الدائمة. وأيضًا لا تكون متطرفًا بالإيجابية، وتنكر الواقع، بل من المستحسن أن تعترف بنقاط الضعف، وتصححها، أو تطلب المساعدة عند الحاجة. فهذا تصرف محمود؛ لأنك تبحث عن حل، ولم تتصرف بسلبية، وترضى بأن تكون بهذا المنحدر النازل طيلة حياتك.
لا بد أن تعي وتفهم أن حياتنا صعود ونزول, ليل ونهار, أسود وأبيض.. وهذا هو الإقرار بالحياة. فحياتنا تكون خطًّا مستقيمًا بدون منحنيات في حالة واحدة فقط، عند توقُّف نبض القلب عن الحياة.
والمعنى الصحيح للإيجابية أيضًا في هذه الآية الكريمة {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}؛ إذ ذكر الله -جل وعلا- لفظ (مصلحون) وليس صالحين، بمعنى أنهم ناقدون مصلحون، وليسوا صالحين في أنفسهم فقط، وإيجابيين مزيفين بتجاهل كل ما يدور حولهم، وعدم تصحيح الواقع المحيط بهم؛ وبالتالي لنكُن إيجابيين، ومن الجيد أن نقر بأهمية النقد البناء، بل نحتاج لهذا النقد في المجتمع، ويجب أن نسمع لهذا النوع من الطرح الواقعي.. فهذه هي الطريقة للتطور وتصحيح الخلل.
ونطلب أيضًا من نقادنا وكتّابنا أن يكونوا مصلحين بطرحهم، وصادقين، وواقعيين؛ فهذا جزءٌ من رسالتهم السامية؛ لأنه يستحيل انعدام وجود مشكلات؛ فهذا يحدث فقط في بلاد العجائب في كتب الروايات الخيالية، بل إن (الماسحين للجوخ) بشكل دائم للواقع هم في الحقيقة سلبيون متطرفون، ويعيشون مرحلة إنكار، وضررهم أكبر من نفعهم، وهم سبب لهلاك الأمم كما ذُكر في الآية الكريمة؛ لأنهم اختاروا الصمت، وفضلوا النفاق والقناع المزيف في حدث يتطلب الصدق في الطرح والمساهمة بحلول؛ لذلك نحتاج إلى أن يكون كل من لديه قلم حر وإيجابي أن يكون مصلحًا بنقده البنّاء، ويستمر في ذلك؛ فأنتم من أسباب صلاح وتقدم الأمم. وهذه هي الإيجابية الحقيقية، وما عدا ذلك وَهْم.
** **
- محاضر بجامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن