شمس تكاد تذيب الحديد من بأس حرارتها..
صحراء يضرب الناس أكباد الإبل ليتجاوزوها.
في هذه الظروف القاسية ينشأ فيها الرجال الأشداء.
فصول هذه القصة ليست في دمشق الأموية ولا بغداد الرشيد أو قاهرة المعز إنما في قلب صحراء نجد غير أن التاريخ لم يحفظ لنا من تفاصيل هذه الرحلة إلا أقلها، بدأت خيوط القصة من مدينة بريدة، شبّ الفتى صالح يتنقل بين علمائها يطلب العلم في الحلقات العلمية لجامع بريدة الكبير. وكأنه سخّر حياته لهذه الغاية النبيلة، وإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام، هذه الهمة العالية لمن تربى على سير العظماء من تاريخ أمة الإسلام، فماذا تنتظر من فتى يقرأ رحلة الصحابي الجليل جابر بن عبد الله التي استمرت شهراً من أجلٍ حديث من عبد الله بن أنيس رضي الله عنهما، وهو الذي رأى علو الهمة في رحلة الإمام أحمد من بغداد إلى صنعاء ليأخذ عشرة أحاديث.
إنه الشيخ صالح بن عبدالرحمن السكيتي الذي آثر الاجتهاد على الراحة ليطلب العلم، ولينضم إلى قافلة العظماء الذين سجلوا أسماءهم بأحرف من نور في صفحات التاريخ، في الوقت الذي انشغل فيه السواد الأعظم من الناس في السفر والترحال لغرض المال، كان للشيخ وجهة أخرى هو موليها؛ إذ تاقت نفسه إلى المزيد من العلم، كأنه أحس بعظم المسؤولية عليه لتعليم الناس؛ فهم على ترك بريدة التي عاش فيها ولم يأبه بطول السفر واختار وجهته القادمة حيث بداية الرحلة التي أعد نفسه لها.
واختار أن يكون معه رفيق الدرب وزميل العمر الشيخ علي الضالع صاحب الهمة العالية وعرض عليه الأمر، وقال: الرياض يا علي! هكذا استهل حديثه مباشرة ليعرض على صاحبه فكرة السفر لطلب العلم، لم يجد أي معارضة من صاحبه الذي شجعه على ذلك، وكان القرار الأصعب هو وسيلة السفر؛ حينما صرح له الشيخ قائلاً: سنذهب راجلين!
ثلاثة أسابيع قطعها الشابان سعياً لطلب العلم. يمران في وسط صحراء نجد قاطعين الفيافي والقفار مروراً بسدير، والوشم، والمجمعة وجبل طويق و(بلدان العارض) ثم الوصول لقلب الرياض وتحديداً مسجد دخنة الكبير ثاني مسجد أسس بالرياض عرف بحلقاته العلمية للمفتي الأكبر الشيخ/ محمد بن إبراهيم آل الشيخ.
من هنا بدأ الشيخان في رحلة كان قوتهما فيها بضعة تميرات وماء، من مشقة الصحراء لتبدأ قصة عالم صدق الله عز وجل فصدقه الله؛ كانت إقامته في رباط طلاب العلم يتدارس القرآن كل ليلة مع صاحبه، ويجتهد كل وقته في الدراسة والتحصيل ليصبح الفقيه الشيخ صالح السكيتي.
لا بد من العودة إلى الديار، لكنه العود الأحمد؛ عاد إلى بلدته التي تركها طالب علم؛ ليطرق بابها عالماً ذا هيبة وإجلال يشبه في سمته السلف الصالح، تولى الشيخ قضاء المذنب وعمل معلماً في معهد بريدة العلمي، وغرس في نفوس طلابه قيمة العلم وأهله، وظل بين أهل بلدته يدرس ويعلم في مسجده إلى أن جاءه الأجل عام 1404هـ رحمه الله وغفر له.
** **
عبدالملك بن عبدالوهاب البريدي - مؤسس دار النفائس والمخطوطات ببريدة