د. محمد بن عبدالله آل عمرو
قال لي صديقي باستهجان بالغ: ألا ترى أننا نعيش في زمن الجاهلية الباذخة؟! قلت له: كيف ونحن نعيش عصر العلم والإبداع والابتكار وعصر التقنية والحضارة العلمية العالمية؟!
قال: ليست المجتمعات والشعوب في ذلك سواء، فقد ينتشر العلم ويكثر المبدعون، وتتسع دائرة الابتكارات، وتزدهر المنتجات الحضارية في كل مكان، ومع ذلك تجد الجاهلية الباذخة مكانها، بل ربما تكون تلك البيئة مكانها المناسب!! قلت له: بربك ارفق بقدرتي على الفهم والاستيعاب!! كيف يجتمع الضدان اللذان كنت أحسب أنهما لا يلتقيان أبدًا، العلم ومنتجاته، والجهل وموبقاته؟! قال: إن ذلك ما جعلني في حيرة مما أسمع وأرى! ففي الجاهلية الأولى انتشرت إحدى العادات الاجتماعية التي ربما كانت الظروف آنذاك تستدعي وجودها، على ما فيها من الازدراء والنقص لمن يمارسها، ولمن يستدعي ممارستها، ألا وهي عادة «النائحة المستأجرة» وهي امرأة تتكسب بنواحها وبكائها الكاذب، وتهييجها لمشاعر الحزن في المآتم، في حين أنها في حقيقة الأمر لا تشعر بألم الفراق، كما تشعر به أم الفقيد أو أخته أو زوجته أو ابنته، ولذلك قالت العرب مثلها المشهور: «ليست النائحة الثكلى كالمستأجرة»، وقد حرم الإسلام هذه العادة الجاهلية. أما في جاهليتنا المعاصرة «الجاهلية الباذخة» فهي الوجه المعاصر لتلك العملة الزائفة، إنها جاهلية المدَّاحين المستأجرين، الذين يتكاثرون في المجالس ومنابر المناسبات، وأصبحت توجه إليهم الدعوات، وترتب على مواعيدهم الحجوزات، وقد استخَفُّوا بمدائحهم أفرادًا وأسرًا من أصحاب المواقف المشرفة، والماضي المجيد، لم يكونوا بحاجة إلى مادح يلبسهم أثوابًا طاووسية ليست لهم، أو ينعم عليهم بأوصاف زائفة كاذبة، فما زادوا على أن جعلوا أنفسهم في محل السخرية والاستهجان.
قلت له معك حق.. غير أن الواثقين من أنفسهم وإنجازاتهم وأمجادهم حقًا، لا يستخفهم مدح المادحين، ولا تزيدهم الأمداح شرفًا، ولا ينقصهم عدمها مكانة ورفعة في مجتمعهم، فأذكر مناسبة ذات ليلة حضر فيها جمع غفير من الناس وبينهم عدد من علِيّة القوم ووجائهم، فانبرى مادح يمجد ويمدح هذا وذاك بأفعال وصفات من زخرف القول الفارغ، ولسوء حظه غفل عن أن يمدح واحدًا من أبرز الحاضرين مكانة اجتماعية، فلما انتهى من كلامه وابتعد عن منصة الخطابة انتبه لذلك، فعاد إلى المنصة معتذرًا بعدم رؤيته لذلك الوجيه، فكان عذرًا هزيلاً وزاده ازدراء رد ذلك الوجيه عليه، حيث قال: لا عليك، لم أنتظر منك مدحًا ولست بحاجة للمديح.
وليس كل المدح مذمومًا فمن المدح المحمود الثناء على من يرجى خيره ونفعه لعامة الناس من باب الشكر والاستزادة، والثناء على الرجل في غيبته بما هو أهله دون زيادة، وكذلك من المدح المحمود ذكر محاسن الناس وجميل أفعالهم وصفاتهم متى سنحت فرصة الزمان والمكان، من باب حفزهم على المزيد منها، وحض الآخرين على الاقتداء بهم من غير مبالغة ولا إطراء فوق الاعتدال، ومنه مدح طرفي الخصومة والثناء عليهم، لحثهم على إصلاح ذات البين، وعلى الصبر والاحتساب، وعلى العفو والتسامح.
وإنما يُذمُّ ويُستقبحُ اتخاذ المديح مهنة يُتَكَسَّبُ بها، وعادة يعرف بها المادح، فتراه متجولاً في المحافل والمجالس، فيثني على الممدوحين بما ليس فيهم، مستخدمًا عبارات زائفة طنانة يكررها في كل مناسبة، ويبالغ في مدحه وإطرائه للممدوحين ولكل من له بهم علاقة جغرافية أو قبلية، حتى يُهَيِّجُ لديهم مشاعر الحماس والكبرياء والغرور، ويفتن الناس في أخلاقهم، ويخرجهم من حالة الحصافة والوقار، إلى حالة الاستخفاف والطيش، ولا غرابة بعد ذلك أن ترى منهم عجبًا من التصرفات الطائشة، في حالة يغيب فيها العقل أمام الناس فترى من يخلع شيئًا من ملابسه، ومن يتمايل طربًا في حركات استعراضية، وأصوات هستيرية، أو يمنح المادح دون وعي، وتحت تأثير النشوة والزهو الزائف، شيئًا من ممتلكاته الغالية ونحو ذلك، وقد يمتد أثر المديح الزائف على شخصية الممدوح، غرورًا وكبرياء، فيضع نفسه في غير موضعها الاجتماعي المناسب، فتختل علاقاته بنفسه، وبأسرته، وبالمجتمع حوله.
وقد توعد الله تعالى أولئك الذين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فما بالك بمن يستدعون المادحين ويدفعون لهم الأموال ليمدحوهم، قال تعالى {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ ويُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ منَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (188) سورة آل عمران.
أما أولئك المداحون الكذابون المتكسبون بالمدح في زمن الجاهلية الباذخة فحقهم حثو التراب في وجوههم، فقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب».