عبد الرحمن المعمر
الهاتف لا يجيب
في مساء يوم الأحد 18 محرم 1442هـ، الموافق 6 سبتمبر 2020م، تسلل إليّ عبر الهاتف خبر وفاة فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن محمد بن فيصل المبارك الذي انتقل إلى جوار ربه ذلك اليوم. وجمت وتلعثمت فانعقد اللسان وفجع الفؤاد ثم تماسكت وتبادلت العزاء مع شقيقي مشاري الذي كان على الطرف الآخر، حيث كنت وإياه من عارفي الشيخ منذ زمن، إذ كان صديقاً لوالدنا -رحمهما الله-.
لقد هزتني وفاة الشيخ واستدارت بي الأيام والسنون واستدعيت الذكريات الماضيات، والمسامرات والأمسيات، والمكالمات والمحادثات، التي لن أحظى بها بعد اليوم، ومع ذلك وبطريقة لا شعورية فزعت إلى الهاتف لعلي أسمع صوته كالعادة ولكن هاتف الشيخ لا يجيب.. {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}، لقد رحل الشيخ الذي كنت له صفياً وكان بي حفياً.
اليوم تستمري الدموع وإنها
أدنى سبيل للعزا يأسونا
عرفت الشيخ عبدالعزيز عند تخرجه في كلية الشريعة بالرياض حوالي العام 1378هـ قبل أن يلي القضاء في عدة مناطق في شرق البلاد وشمالها ووسطها وساحلها الغربي، حيث تنقل -رحمه الله- رئيساً لمحاكم ميناء سعود والدمام والقطيف والأحساء والعلا والجوف وعرعر، ثم ختم ذلك قاضياً في محكمة التمييز بمكة المكرمة قبل أن يتحول مسماها إلى الاستئناف.
كما رأس عدداً من اللجان المتخصصة وكلف بمهام قضائية متعددة، قبل أن يتقاعد ويتفرغ للقاء المحبين واستقبال الزوار في منزله بالطائف.
كان والدي -رحمه الله- على صلة واتصال وتواصل مع أسرة آل مبارك الكبيرة والعريقة في محافظة حريملاء مقر تلك العشيرة ومنبت آبائها وأجدادها، ولا أحصي عدد الشخصيات التي تعرفت عليهم من أهل تلك المدينة المباركة، حيث كان والدي يدعو عدداً منهم ممن يفدون إلى الرياض، كيف لا وعلاقة أسرة آل معمر بآل مبارك علاقة قديمة وصداقة حميمة وبين الأسرتين نسب وصهر، نظراً لقرب البلدتين حريملاء وسدوس، فقد تزوج العم إبراهيم بن محمد بن معمر حين كان قائم مقام جدة من ابنة الشيخ فيصل بن محمد المبارك، شقيق الشيخ عبدالعزيز، الذي تَدَيَّر جدة منذ شبابه ورأس هيئة الأمر بالمعروف ثم عُيِّن في عدد من المناصب إلى أن أصبح عضواً في مجلس الشورى عام 1372هـ، وكان صديقاً حميماً للعم عبدالعزيز بن فهد بن معمر منذ كان أميراً على جدة واستمرت العلاقة بعد انتقال العم عبدالعزيز أميراً على الطائف، وتعرفت على الشيخ فيصل أثناء زياراته للعم عبدالعزيز في الطائف.
والشيخ فيصل هو أحد علماء ووجهاء وأدباء هذه الأسرة المباركة، وكذلك أخوه الشيخ سعد بن محمد المبارك الذي ولي القضاء في ضرما ووادي الدواسر وقرية العليا والرياض، ثم تولى قضاء الوشم سنين عديدة، كما أن الشقيق الثالث للشيخ عبدالعزيز، الشيخ عبدالله بن محمد المبارك أحد وجهاء حريملاء وأعيانها كان على صلة وثيقة بالعم عبدالله بن إبراهيم بن معمر لأن جدة أبناء العم عبدالله من آل مبارك.
كذلك خرج من هذه الأسرة نجم كبير وعالم نِحْرِير عُرِف بالتقوى والتعفف والزهد ألا وهو الشيخ فيصل بن عبدالعزيز بن فيصل المبارك (ابن عم الشيخ عبدالعزيز)، الذي ولي قضاء تثليث وأبها وبيشة وتربة والخرمة والقنفذة وقرية وضرما ثم الجوف في عهد الملك عبدالعزيز، وكان يصرف أكثر راتبه على طلبة العلم المحتاجين، كما ذكر ذلك لي الأخ حسين بن عبدالله العبدالوهاب، الذي كان والده كاتباً للشيخ فيصل، ومن المصادفات أن الشيخ عبدالعزيز تولى قضاء الجوف أيضاً، والشيخ فيصل هو جد أبناء الشيخ عبدالعزيز (سعود وفيصل وعمر وأحمد ومحمد وأخواتهم) من الأم. وقد نشر الشيخ محمد بن صالح بن سلطان مجموعة من مؤلفات ورسائل وفتاوى الشيخ فيصل وأهداني نسخة منها.
ومن أمراء هذه الأسرة الأمير علي بن حمد المبارك الذي تولى عدداً من الإمارات في عهد الملك عبدالعزيز، وكان أميراً على الوجه أثناء فتنة ابن رفادة، وكان بينه وبين العم عبدالعزيز بن فهد بن معمر أمير ينبع -وقتذاك- اتصال وتواصل لمواجهة المتمردين.
والأمير علي هو والد الشيخ حمد المبارك (أبوخالد) الوجيه المعروف الذي تولى المالية في المنطقة الشرقية ورأس مجلس إدارة جريدة اليوم. ومن أعلام وعلماء آل مبارك الشيخ ناصر بن حمد الراشد المبارك الذي تولى رئاسات تعليم البنات ثم شئون الحرمين ثم ديوان المظالم، كما أن منهم نجوم شوامخ خدموا بلادهم في الإمارات والقضاء والتعليم والسلك العسكري والدبلوماسي والصحة والتخطيط والمالية وغيرها من المجالات، رحم الله الماضين وحفظ الباقين.
وكان كثير من أبناء أسرة آل معمر يذهبون إلى حريملاء إما لزيارة أقاربهم أو للدرس على علماء حريملاء ومنهم الشيخ العلامة محمد بن فيصل بن حمد آل مبارك، والد الشيخ عبدالعزيز، الذي شارك في عدد من الغزوات مع الملك عبدالعزيز إماما ومفتياً للجيش، وكلفه الملك المؤسس بعدد من المهام، وأوفده مرشداً في عدد من الجهات، وعينه حاكم الشارقة الشيخ سلطان بن صقر القاسمي قاضياً لمحكمتها وإماماً وخطيباً لجامعها ومديراً لمدرستها العلمية.
أما الشيخ عبدالعزيز سليل بيت العلم والفضل فقد ولد في حريملاء قرابة العام 1349هـ، ودرس في كتاتيب الشيخ محمد بن عبدالله بن حرقان ثم تتلمذ على يد والده العلامة الشيخ محمد، وانتقل مع أخيه الشيخ سعد إلى وادي الدواسر، حيث عمل كاتباً للضبط في محكمتها ثم عاد إلى الرياض بعد افتتاح المعهد العلمي عام 1373هـ ودرس به، ثم التحق بكلية الشريعة إلى أن تخرج عام 1378هـ، وأذكر من زملائه في الدراسة الشيخ سليمان بن عثمان الفالح نائب رئيس هيئة التحقيق والادعاء العام -سابقاً-، والشيخ منصور بن حمد المالك رئيس ديوان المظالم -سابقاً-، والشيخ صالح بن محمد اللحيدان رئيس المجلس الأعلى للقضاء -سابقاً-، والشيخ محمد الدريبي وكيل وزارة الداخلية -سابقاً-، والشيخ محمد بن زيد آل سليمان رئيس محاكم المنطقة الشرقية -سابقاً-.
وقد اتصلت أسبابي بأسباب الشيخ عام 1379هـ، حيث صدرت «الجزيرة» كمجلة شهرية في البداية، وكان يصدرها الشيخ عبدالله بن خميس من منزله بحي الفوطة أو الغوطة، كما كان يسميها تيمناً بغوطة الشام وفيحاء دمشق.
كان الشيخ عبدالعزيز من أوائل المشاركين في الأعداد الأولى لمجلة «الجزيرة»، حيث كان يحرر فيها باباً عنوانه (اسأل تجب) يورد فيه ويرد على استفسارات القراء، كان هذا الباب من الأبواب التي لفتت نظري إلى قوة أسلوب الشيخ وسعة اطلاعه وتعدد اهتماماته وتنوع مشاربه. من ذلك اليوم أدركت أن الشيخ ليس قاضياً متخصصاً في القضاء والشريعة والإفتاء فحسب، ولكنه مثقف بعيد الغور عميق الغوص متين الأسلوب، فالشيخ منذ كان طالباً في المعهد العلمي في الرياض يشارك في الأمسيات الثقافية والمناسبات الخطابية، وقد أكسبه هذا المران قدرةً واقتداراً على الخطابة والارتجال من دون أن يستعين بالورق أو القرطاس. ولما نجح وتخرج ومارس القضاء صار يلقي بعض خطب الجمعة ويتناول مواضيع غير ما ألفه الناس من خطب تتلى من قراطيس بأسلوب مفكك وركيك، ولفت بأسلوبه الأنظار إليه، وعرَّف الناس أساليب لم يعتادوها في الخطابة والتناول.
كان -رحمه الله- محدثاً بارعاً ومحاوراً مقتدراً، يملك ناصية الحديث، ويحسن إدارة الحوار بأسلوب لبق وطريقة موفقة، قوي الحجة، حاضر الدليل، سريع الشاهد والاستشهاد بالشعر أو الحكمة.
أعود إلى حياته في الطائف؛ المدينة التي أحبها واستقر بها وأقام حتى وافاه الحِمَام، فبعد أن تحلل من كل الارتباطات الوظيفية والشواغل الرسمية انتقل من حي شهار القديم إلى ضاحية الحوية خارج الطائف، حيث اشترى مزرعة كبيرة بها أشجار وآبار وقصر منيف، يستقبل فيها أصدقاءه وزواره طيلة فصول العام وعلى مدار الأيام، أما في الصيف فلا تسل عن كثرة الزوار والضيوف.
كان -رحمه الله- أريحي النفْس، طويل النَفَس، عميق النظرة، دائم العبرة، خبيراً بمعرفة حقائق الناس وطغواء النفوس ولأوائها. كنت أشفق على الجالس أمامه، خاصة إذا كان قليل الخبرة في الرجال، لأن الشيخ يعرف نفسية الجالس ويحللها من خلال حديثه ومنطقه وحركات رجليه ويديه وارتباكاته وسكناته، ولعل بعضهم تمنى أنه لم يدخل مع الشيخ في حديث أو مناقشة، لأنه كشف نفسه وضَعْفَ أدلته، وكأن الشيخ هو المعني بقول الشاعر:
وتراه يصغي للحديث بطرفه
وبسمعه ولعله أدرى به
أما عن صفاته الشخصية ومواهبه اللدنية، فقد كان -رحمه الله- أقرب إلى الطول، مستقيم القامة، حسن الملامح، دقيق الملاحظة، تفوق عنده الحس والحدس فصار يختصر على محدثه ما كان يريد أن يقول لأنه يعلم ما يدور في ذهنه، وهذا نوع من الفراسة والكياسة (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله).
كان يحب اليسر والبساطة والتيسير في كل أموره، يكره التكلف والمظاهر الكاذبة وحب الظهور والتظاهر بالتعالم، يلبس الملابس البيضاء، حتى غطاء الرأس (الغترة) كانت بيضاء، ولم أذكر أني رأيته يلبس الشماغ الأحمر منذ عرفته. كان يبتسم للطرفة، ويضحك للنكتة، لا يتجهم، ولا يعبس، ولا يشيح بوجهه عند تباسط الحديث.
كان يحضر إلى الطائف في كل صائفة طائفة من علية القوم وكبار الشخصيات ممن كانت له بهم صلة من أمثال الشيخ عبدالله بن عدوان، والشيخ محمد بن صالح بن سلطان -رحمهما الله-، وكان لدى كل من هؤلاء مجلس في منزله، يحضره عدد من الأصدقاء وبعض من المصطافين، وكنت أشهد هذه المجالس، وألحظ كيف أنه إذا حضر الشيخ عبدالعزيز يتحول المجلس من حديث عادي رتيب إلى مناقشات فقهية ومطارحات أدبية ومناوشات اجتماعية. كان -أعلى الله منزلته في الجنان- يحسن الحديث في كل هذه الأشياء، يعبر بحرها، ويخوض نهرها.
ولدى الشيخ مجلس في مزرعته عصر كل يوم من أيام الصيف، حيث يحضر إليه عدد من زملائه القدامى من الدراسة والقضاء وأصدقائه من الحي والأحياء، يدور الحديث في تلك العصريات رخاء حيث أصاب، يتناول ذكريات الماضي، واهتمامات الحاضر، ولهاث الحياة والناس خلف العيش والمعيشة، وأحياناً تتخلله بعض الطرف والطرائف. كما كان يزور الشيخ عدداً من طلبة العلم والعلماء، يستنيرون بآرائه ورؤاه واختياراته الفقهية.
لقد عاش الشيخ في ذلك المنزل وتلك المزرعة ليالي وأياماً من أجمل أيام الحياة. كنت أفزع إليه في الاستشارة ثم الاستخارة فأحمد عاقبة ذلك. وكثيراً ما ارتحت واطمأننت بعد أن استشرته، لعلمي بنفسه الرضية وتعاملاته الأريحية. عُمِّر الشيخ طويلاً، ولعل ذلك مصداقاً لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- (خير الناس من طال عمره وحسن عمله).
كان الشيخ عبدالعزيز -غفر الله له ورفع منزلته- كثير التغني بالطائف والحياة فيها ورخاء العيش في أكنافها، بعد أن استقر به المقام وألقى عصا التسيار، يرتاح لمن يشاركه ويبادله الحب والإعجاب بالطائف، ويتذوق الأشعار التي قيلت فيها، وكان يطلب مني أحياناً إسماعه بعضها مثل قصيدة فؤاد الخطيب:
أنا في الطائف أستوحي الشعور
إن في الطائف بعث ونشور
فسل الطائف عن أيامنا
تنطق الدار وأبراج القصور
كان -رحمه الله- ينتقد بعض سلوكيات الناس وعاداتهم، لا يجامل ولا يحابي، شجاعاً يقول ما يعتقد ويعتقد ما يقول، بعكس الكثير من الناس الذين يزعمون أنهم حذرون لكنهم في الحقيقة جبناء خوارون. أكتب هذا المقال الذي لا يفي الشيخ حقه علي، قبل أن تهدأ النفس وتجف الدموع، مواسياً نفسي وكل محبي الشيخ الراحل وتلاميذه وعارفي فضله، ومعزياً أسرته الكريمة وأبناءه النجباء وأصدقاءه الأوفياء.
ستبكيه من بعد الممات محاكم
صحائف عدل فصلها الجد والرشد
أيا ربنا رفقا فضيفك مؤمن
مقيم على التوحيد قد ضمه اللحد
** **
- من عصبة الأدباء