د. مساعد بن سعيد آل بخات
أشعر بالأسى وأنا أسمع بعض أفراد المجتمع يتحدثون باللغة الإنجليزية في بعض أماكن العمل سواءً كانت مؤسسات حكومية أو شركات، والذي تطور ليُلقي بظلاله على بعض المحلات التجارية من مطاعم ومقاهي وغيرهما لنلحظَ بأنَّ البائع يتحدث باللغة الإنجليزية مع الزبون حتى وإن كانا من نفس الجنسية (السعودية), أو من جنسيات عربية!.
حتى وإنَّ بعضهم لا يتحدثون بلغة واحدة في اجتماعاتهم وحواراتهم, بل بلغتين متداخلة فيما بينهما, فتارة تسمعه ينطق جملة باللغة الإنجليزية, وتارةً أخرى تسمعه ينطق جملة باللغة العربية! مما يجعلك تشعر بأنَّ ليس لديهم في الاجتماع أو في الحوار لغة واحدة متفق عليها للحديث بها فيما بينهم, بل كل شخص يحاول أنْ يُبرِّز قدراته في التحدث بأكثر من لغة أمام الآخرين لكي لا يكون أقل من غيره, ولو امتلك لغة ثالثة لدمجها مع اللغتين السابقتين في حديثه من باب الاستعراض.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا:
لماذا يتعمد بعض أفراد المجتمع التحدث باللغة الإنجليزية في مجتمعنا العربي؟
ألا يوجد لديهم فخر واعتزاز بلغتهم العربية؟
إنَّ اللغة العربية تُعد من أقدم اللغات التي استخدمها الإنسان منذ أنْ خُلِقَ آدم عليه السلام حتى يومنا هذا، فهي اللغة المستخدمة بين الخالق عز وجل وبين أنبيائه ورسله، قال الله تعالى:
{وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ} (35) سورة البقرة, لذا فإنَّ اللغة العربية تستمد قوتها من أكثر من جانب وهي كما يأتي:
أولاً/ تستمد اللغة العربية قوتها من حيث أنَّ أول كلمة نزلت على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هي باللغة العربية كما في قوله تبارك وتعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}.
ثانياً/ تستمد اللغة العربية قوتها من حيث أنها لغة الدين، كما في قوله تبارك وتعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (2) سورة يوسف.
ثالثاً/ تستمد اللغة العربية قوتها من حيث أنها تعبر عن ثقافة مستخدميها في معظم البلدان العربية والإسلامية، لأنَّ الثقافة هي ذلك الكل المركب الذي يشمل الدين واللغة والفن والعادات والتقاليد ..إلخ لتُعبِّر عن أسلوب حياة الإنسان, مع التأكيد هنا بأنَّ أهمية اللغة العربية تتعدى كونها وسيلة التخاطب بين الناس أو لنقل الثقافة من جيل إلى جيلٍ آخر فحسب إلى أنها مصدر للثقافة والحضارة والأفكار عند الناس.
رابعاً/ تستمد اللغة العربية قوتها من حيث أنها اللغة التي استخدمها علماء المسلمين القدامى أمثال: ابن سينا، الغزالي، ابن خلدون, الجاحظ.. إلخ، فامتلأت أرفف المكتبات بمؤلفاتهم المحملة بآراء ونظريات تربوية وعلمية والتي استفاد منها المسلمون وغير المسلمين في العلوم المختلفة.
خامساً/ تستمد اللغة العربية قوتها من حيث أنها لغة آبائنا وأمهاتنا وأجدادنا الذين نفخر ونعتز بهم, مارسوا حياتهم الطبيعية بلغة عربية سهلة وواضحة وتناقلوها عبر الأجيال فهي تُمثِّل تاريخاً للبشرية في مجتمعٍ ما.
كما أنَّ المتتبع لحياة الصحابة والتابعين يجد بأنهم كانوا يؤكدون على تعلم واستخدام اللغة العربية في حياتهم اليومية, ومن ذلك ما يأتي:
أولاً/ يقول عثمان المهري: أتانا ونحن في أذربيجان كتاباً من عمر بن الخطاب رضي الله عنه كُتِبَ فيه: (تعلموا اللغة العربية فإنها تُثبِّت العقل وتزيد في المروءة).
ثانياً/ يذكر زوج بنت الإمام الشافعي رحمه الله بأن الشافعي كان يقول: لقد تبحرت في اللغة العربية عشرين سنة لكي أتقوى بها لفهم القرآن الكريم والسنة النبوية.
ثالثاً/ كان علماء الدين يقولون: (من تكلم في الفقه بغير لغة تكلم بلسان قصير).
وأشارت أ. نوال الزاكي في جريدة ميثاق «أنَّ الباحثين يؤكدون بأنَّ أصوات اللغة العربية وصيغها وتراكيبها هي كما كانت, لم يصبها كثير من التغيير رغم تطاول القرون, وتتابع الأجيال, وهو أمر نادر الحدوث في عالم اللغات, لم يسجله التاريخ إلا للغة العربية, التي نقرأ نصوصها القديمة فلا نحس بقدمها, بل إننا نأنس بها, ونستمتع بتكرارها وتمثلها واستخداماتها, على حين أنَّ لغات أخرى قد أصبحت من مخلفات التاريخ ولم يمضِ على إنشائها قرن واحد».
ومما ينبغي التوكيد عليه هنا بأنَّ عامل اللغة العربية لم يكن مظهراً من مظاهر العروبة فحسب, وإنما كان مظهراً من مظاهر الإسلام, لذا ارتبطت اللغة العربية بالهوية الإسلامية, ولعل مقولة البيروني الشهيرة وهي: «للهجو بالعربية أحب إلي من المدح بالفارسية» أوضح معنى للانتماء الديني من خلال اللغة العربية التي تخالف لغته القومية لأنه فارسي.
وقد يتبادر في ذِهن بعض أفراد المجتمع هنا إلى أنني أُقلِل من قيمة اللغات الأخرى من غير اللغة العربية, إلا أنني في الحقيقة لا أٌحجِّم هنا من قيمة وأهمية أن يتعلم الإنسان لغات أخرى غير لغته العربية، لأنني أعي جيداً أهمية امتلاك الإنسان لعدة لغات مختلفة تفيده في مجال عمله أو تجارته، لذا فقد قال الحق تبارك وتعالى: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}، والمقصود بالبيان هنا: اللغة، فاللغة هي وسيلة تواصل اجتماعي وحضاري، وكلما زادت حصيلة الإنسان اللغوية أمكنه ذلك من تتبع الأفكار الأكثر عمقاً، لأنَّ اللغة هي أداة التفكير، فاللغة والتفكير وجهان لعملة واحدة.
إنني هنا آمل بأنْ تحدث الإنسان العربي بلغته العربية في مجتمعه أو في أي مجتمع عربي آخر لأنَّ هذا يُعد أسلوباً صحيحاً ويُعبِّر عن مدى فخر واعتزاز هذا الإنسان بهويته العربية وثقافته, فنحن لا نُريد طمس هويتنا وثقافتنا بسبب بعض السلوكيات من بعض أفراد المجتمع لإنها تُشكِّلُ لنا إرثاً قوياً يحثُ لنا أن نعتز به, كما لو أنك زُرت دولة اليابان مثلاً ورأيت أفراد المجتمع الياباني يتحدثون بلغتهم فيما بينهم مما يجعلك تكتشف بأنَّ الشعب الياباني يعتز بهويته وثقافته.
ختاماً..
التقيد باستخدام اللغة العربية ليس من أجل الحديث بها فحسب, بل لأنها تُعبِّر عن هوية وثقافة وحضارة ودين من يتمسك بها, فهي مصدر قوة لصاحبها.