اللواء الركن م. د. بندر بن عبدالله بن تركي آل سعود
سبق أن أكدت في معظم مقالاتي السابقة تقريباً، إن لم يكن فيها كلها، أن قيادتنا الرشيدة الحكيمة الواعية الذكية المخلصة لرسالة بلادها، لن تدهشنا مهما حقَّقت من إنجازات عظيمة لنا ولبلادنا وللعالم أجمع، لسبب جد بسيط: عوَّدتنا في كل مرة على تحقيق إنجازات تُدْهش الدهشة؛ إلاَّ أن ما حقَّقته من نجاح استثنائي مذهل حقَّاً في هذا الحج الأخير الاستثنائي بالمقاييس كلها، عقد لساني، وجمَّد المداد في قلمي من شدَّة الدهشة، فاحترت من أين أبدأ مقالي هذا، وأين يمكنني أن أنهيه؛ ولهذا تأخرت في كتابته ونشره.
ولهذا أيضاً لم أجد بُدَّاً من اختيار عنوان تغطية الإعلام الرسمي لحج عام 1441هـ (بسلام.. آمنين) عنواناً لمقالي اليوم؛ إذ حقَّقت قيادتنا الرشيدة، السلامة والأمن والأمان والاطمئنان لضيوف الرحمن بشكل يفوق الخيال، جعل كل مسلم في العالم حيثما كان، يتمنى صادقاً أنه لو كان من بين الملبِّين، الواقفين بصعيد عرفات وسط جمع الحجاج.
وقطعاً، كان هذا كله ثمرة توفيق الله سبحانه وتعالى أولاً وأخيراً، ثم بعزم قيادتنا الرشيدة وتوجيهها للمعنيين، وإدراكها لمفهوم رسالة بلادها التي اختصها بها الله العلي القدير من دون سائر الأمم والشعوب، وعزمها الأكيد على استمرار قافلة الخير القاصدة، مهما كانت التحديات وتعقدت الحياة، ثم بصدق الجهات الحكومية كافة، والهيئات الأهلية التي نالت هذا الشرف العظيم بمشاركتها في أداء هذا الواجب العظيم أيضاً.
فقد تابعت هذه الرحلة المباركة عن كثب، منذ لحظة اتخاذ القيادة الرشيدة القرار، بناءً على فتوى هيئة كبار العلماء بضرورة تقليص عدد الحجاج لأقل عدد ممكن، والاقتصار على حجاج الداخل من مختلف الجنسيات، امتثالاً لأمر الله بتطهير البيت الحرام من المرض وكل ما يؤذي الإنسان، مثلما أمر سبحانه وتعالى بتطهيره من الشرك، حتى أداء ضيوف الرحمن طواف الوداع ومغادرتهم مكة المكرمة إلى من حيث أتوا.
أمَّا مثار دهشتي هذه المرة، فيكمن في هذا الجهد الهائل، والتنظيم المحكم، والأداء الرائع الذي أدهش العالم كله، وأَلْجَم ألْسِنَة الأعداء الحاقدين، الذين أعدوا العدة وهيئوا أنفسهم للشماتة والترويج لما توهموا حدوثه من كارثة (أكيدة) في هذا الحج الأخير حسب ظنهم، سعياً للتشكيك في قدرات أرض الرسالة، قبلة المسلمين ويد الخير الطولى في العالم، وأهليتها للاضطلاع بدورها في أداء هذه الرسالة السَّامية العظيمة التي اختصها بها الله سبحانه وتعالى من دون سائر البلدان؛ وهو جلَّ شأنه العليم الخبير بمن يمكن أن يكون قميناً للقيام بهذه الرسالة العظيمة في خدمة الحرمين الشريفين وضيوف الرحمن.
وصحيح، حثَّت القيادة الرشيدة الجهات الحكومية كافة التي تشارك عادة في خدمة الحجاج كل عام لبذل مزيد من الجهد، حتى إن اضطر الأمر للتضحية بالنفس. فتسابق الجميع لبذل جهد يفوق الوصف ويدهش العقل ويجعل الإنسان في ذهول من هذا الأداء المنقطع النظير، لخدمة نحو عشرة آلاف حاج، أضعاف مضاعفة لما كان يبذله لخدمة نحو ثلاثة ملايين حاج.
ولأن الجهد هائل، والعمل كثير، والإبداع فريد، ومساحة المقال محدودة، سأكتفي بإشارة سريعة للدور العظيم الذي اضطلعت به بعض الجهات الحكومية، لتطبيق خطة الحج الاستثنائية لهذا الحج الاستثنائي التاريخي، مع أن الكل كان له دور غاية في الأهمية، من العامل البسيط الذي يعتني بالنظافة في هذه الجهة الحكومية أو تلك، حتى الوزير.
وزارة الصحة
منذ اللحظة الأولى للإعلان عن ظهور فيروس كورونا في مدينة ووهان الصينية، وما يسببه من وباء وسرعة انتشاره، وعدم وجود علاج له أو لقاح ضدَّه، وما صاحب ذلك كله من إرهاصات باحتمال استمراره لسنوات قادمة، عكفت وزارة الصحة مع الجهات المعنية على إعداد خطة استثنائية للحج في ظل تلك الظروف الصعبة، ثم أخذت في تطويرها إلى أن وصلت إلى صيغتها النهائية التي ترتكز على ثلاثة بروتوكولات صحية: تطمن، تباعد، توكلنا. فاطمأنت أولاً على أهلية من تم اختيارهم للحج من حيث وضعهم الصحي، ثم عزَّزت مفهوم التباعد الاجتماعي، لكي تأخذ بكل الأسباب الضرورية؛ حتى إذا عقلتها، توكلت على الله، ثم سمحت لقوافل الحجاج بالانطلاق ملبَّية متوكلة على الواحد الأحد، الذي لا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم.
وعليه، سأحاول جاهداً تلخيص الجهد الهائل الذي بذلته وزارة الصحة في هذا الحج الاستثنائي في نقاط سريعة، لأن شرحه يطول، وكذلك تحليله:
* في البداية، بعدما تم اختيار الحجاج، بناءً على ضوابط محددة يمكن إيجازها في:
- عدم معاناة المتقدمين للحج من أي أمراض مزمنة.
- لم يسبق لهم الحج من قبل.
- يتراوح عمرهم بين 20 إلى 50 سنة.
- شهادة صحية معتمدة تثبت عدم إصابتهم بفيروس كورونا.
- تعهدهم بالالتزام بتوجيهات وزارة الصحة طيلة أيام الحج.
ثم اخضعوا جميعاً للفحص من جديد عن طريق فرق صحية ذهبت إليهم في أماكن إقامتهم في سائر مدن المملكة، للتأكد من سلامتهم الصحية وعدم إصابتهم بالكورونا أو أي أمراض مزمنة، ربَّما تجعلهم فريسة لمهاجمة الفيروس في أي مرحلة ما من مناسك الحج، ومن ثم تم إخضاعه للحجر المنزلي قبل قدومهم إلى مكة المكرمة، وكذلك الحال فيما يتعلق بالمشاركين كلهم في خدمتهم من موظفين وعمال وإداريين ورجال أمن وغيرهم.
تجدر الإشارة هنا إلى أن (30%) فقط من الفرص هي التي خُصِّصت للسعوديين، بينما خُصِّصت الـ (70%) التي بقيت للإخوة المقيمين من أكثر من (160) جنسية من مختلف بلدان العالم.
• عند وصول الحجاج إلى مكة المكرمة، تم إخضاعهم لحجر صحي مؤسسي، ثم تم فحصهم قبل السماح لهم بالتوجه إلى السيل الكبير لأداء الإحرام.
• تم تفويج الحجاج في مجموعات، تتكون كل مجموعة من خمسين حاجاً، وتم تخصيص فرقة طبية متكاملة في مقر السكن لكل مجموعة، ومثلها لمرافقة الحجاج خطوة بخطوة في كل سنتمتر مربع من المشاعر المقدسة، يقود كل فرقة صحية قائد صحي.
• تم استقبال الحجاج في مكة المكرمة في فنادق، بحيث خُصِّصت غرفة معقَّمة لكل حاج، كما تم تزويدهم بحقيبة تحتوي على كل ما يلزم من إحرام، كمامات، سجادة وحتى حصى الجمرات.. وكل شيء فيها كان معقَّماً.
• الحرص الشديد على التباعد الاجتماعي الذي ظهر جلياً من خلال:
- ترك مقعد شاغر في الحافلات التي تقل الحجاج بين كل حاج وآخر، بحيث خُصِّصت تلك الحافلات الكبيرة التي كانت تنقل خمسين حاجاً في الظروف العادية، لنقل عشرين حاجاً فقط، مع تخصيص باب للصعود فقط وآخر للنزول، وتعقيم الحافلات باستمرار.
- تخصيص غرف للعزل الصحي في المشاعر كلها، ففي منى مثلاً، خُصِّصت غرفة لكل حاج، مساحتها تسعة أمتار مربعة.
- جدولة المطاف في الصحن حول الكعبة، بحيث يكون هنالك متر ونصف المتر على الأقل بين كل حاج وآخر.
- وضع حواجز وتكليف مشرفين لمنع الاقتراب من الكعبة والحجر الأسود.
- تم تفويج الحجاج في منى في مجموعات، لم يزد عدد أفراد المجموعة عن عشر حجاج فقط.
- منع التزاحم والتدافع في المشاعر كلها، والتأكد من وجود المسافات اللازمة بين كل حاج وآخر، على أن يكون المنظمون من رجال الأمن. وأستطيع القول هنا باطمئنان: أكاد أجزم صادقاً أنني لأول مرة في حياتي لا أرى تدافعاً أو تزاحماً بين الحجاج في أي مشعر من المشاعر، أو حتى في الحرم المكي الشريف نفسه.
- تخصيص مسار محدد بلون خاص لكل فوج من أفواج الحجاج أثناء أداء مشاعر الحج، ولاسيَّما أثناء الطواف والسعي.
- تخصيص رقم لكل فوج من الحجاج، ومن ثم تخصيص أبواب معينة لدخوله إلى الحرم المكي الشريف، وأخرى لخروجه منه على دفعات.
- تخصيص تسعة أمتار مربعة لكل حاج أثناء الوقوف بعرفة لأداء ركن الحج الأعظم.
- تخصيص كل مخيم من مخيمات عرفة التي كان المخيم الواحد منها يتسع لمائتي حاج في الظروف العادية، لعشرين حاجاً فقط في هذا الحج الاستثنائي التاريخي.
- إعداد بروتوكولات صحية خاصة بكل حافلة، تعتمد تخصيص مقعد لكل حاج والالتزام به طيلة أيام الحج، مع تحديد أبواب مختلفة للصعود وأخرى للنزول، وتعقيم الحافلات باستمرار كلما صعدها الحجاج أو غادروها.
• لأول مرة تم تشغيل الروبوت لتلقي الأسئلة ونقلها إلى العلماء للإجابة عنها، ومن ثم نقلها إلى السائلين.
• الاهتمام بالغسيل، التطهير، التعقيم والتعطير؛ إذ كان البيت الحرام يُغْسَل عشر مرات يوميَّاً، ويُعَقَّم ويُطَهَّر ويُعَطَّر على مدار الساعة، ولاسيَّما صحن المطاف الذي كان يتم تطهيره بعد طواف كل فوج؛ بل أكثر من هذا؛ امتد الأمر ليشمل تطهير حقائب الحجاج يومياً.
• قياس درجة حرارة الحجاج باستمرار.
• تقديم الغذاء للحجاج بإشراف صحي.
• إغلاق حافظات المياه وصناديقها كافة وتقديم مياه زمزم للحجاج في عبوات معقَّمة جاهزة للشرب، وتعقيم الكوادر الذين يقدمون الخدمة للحجاج.
• منع الحجاج من استخدام أدوات تخزين المياه، وحظر العلب التي تُستخدم عادة لتخزين مياه زمزم.
• استعداد هيئة الهلال الأحمر السعودي، ونشر مواقع تمركز في جميع المشاعر المقدسة، بما فيها بيت الله الحرام الذي نشرت حوله أربعة مواقع، وتخصيص سيارات إسعاف لمرافقة الحجاج من الميقات إلى المسجد الحرام، مع مسح صحي شامل للعاملين بها.
• تثبيت أكثر من ألفي عمود رذاذ لتخفيف درجة الحرارة في الحرم بمعدل (8) إلى (10) درجات مئوية.
• تخصيص عيادات طبية علاجية عند سكن الحجاج في جميع المشاعر المقدسة.
• تثبيت آلات تصوير حرارية على المسارات في المشاعر كلها، ترصد حرارة الجسم ومدى الالتزام بالتنظيمات.
• تجهيز عيادات صحية متطورة متنقلة تضم فرقاً طبية، فيها كل التخصصات.
• اعتماد أحدث تقنية في التعقيم تقوم على غاز الأوزون الذي يقضي على الميكروبات والجراثيم قضاءً مبرماً، وهي تقنية آمنة تستخدم في وجود الحجاج، وقد استخدمت في كل من مسجد نمرة ومزدلفة.
وبالجملة: تم تخصيص (6) مستشفيات، (51) عيادة، (200) سيارة إسعاف و(62) فريقا صحيا لخدمة ضيوف الرحمن. وعليه نستطيع القول إن الحج تم في بيئة صحية سليمة معافاة مئة بالمئة؛ إذ تحوَّلت مكة المكرمة والمشاعر المقدسة، بتوفيق الله العلي القدير، ثم بجهد الرجال الصادقين، إلى أكثر منطقة صحية في العالم، خاصة فيما يتعلق بجائحة كورونا.. فشكراً للرجال الذين علَّموا العالم معنى طب الحشود، وأضافوا إليه اليوم صفحة جديدة ناصعة مشرقة مشرِّفة.
وزارة الحرس الوطني
أعدت وزارة الحرس الوطني برنامجاً خاصاً لخدمة ضيوف الرحمن برئاسة أخي صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن بندر بن عبد العزيز آل سعود، وزير الحرس الوطني؛ تكاملت فيه الجهود مع الجهات النظامية الأخرى كافة، ولاسيّما وزارة الداخلية كما تقدم.
وزارة الداخلية
كعادتها دائماً، اضطلعت القوات الأمنية بتشكيلاتها كافة من الأمن العام، أمن الطرق، أمن المرور وغيرها، بدور جد عظيم، فحظيت بشرف أعظم في هذا الحج الاستثنائي، تساندها كالعادة أيضاً بقية القوات النظامية الأخرى كالجيش، الحرس الوطني، حرس الحدود، والدفاع المدني؛ معتمدة نظرية: قلب على العباد، وعين على الزناد وأخرى على الحج. وسأحاول أيضاً جاهداً إيجاز هذا الجهد الصادق في نقاط:
- حظرت الدخول إلى الرحاب الطاهرة في مكة المكرمة منذ الثامن والعشرين من ذي القعدة، حتى الثاني عشر من ذي الحجة.
- شكلت طوقاً أمنياً على مستوىً راقٍ لتفويج الحجاج في مداخل المشاعر كافة ومخارجها، بهدف تحقيق سلامتهم والمحافظة على صحتهم.
- طبَّقت شعار: (لا حج آمن من دون تصريح) بحذافيره، لضمان عدم دخول أي شخص بشكل عشوائي حتى لا يؤذي الحجاج وينقل إليهم العدوى؛ وهو في الحقيقة شعار الحج لكل عام، غير أن شدَّة الحرص في هذا الحج الاستثنائي كانت أمراً في غاية الأهمية، بحيث لم يكن في الأمر استثناءً حتى لأي مسؤول كبير أم صغير.
- ولتحقيق هذا الشعار، أنشأت قوات الأمن نقاطاً أمنية حول المشاعر المقدسة، منعاً لدخول أي مخالف لأنظمة الحج أيَّاً كان. وبالفعل، تمكنت قوات أمن الحج من ضبط (936) مخالفاً لتعليمات الدخول إلى المشاعر المقدسة، طبَّقت بحقهم الإجراءات اللازمة حسبما حدده النظام.
- اعتماد الأسورة الذكية للحجاج، وآلات التصوير الحرارية لمراقبة وضع الحجاج في كل سنتمتر مربع في الحرم المكي الشريف والمشاعر المقدسة.
وزارة الشؤون البلدية والقروية
بذلت وزارة الشؤون البلدية والقروية كرصيفاتها من الوزارات والهيئات والجهات الرسمية التي تستميت كل عام في خدمة ضيوف الرحمن، جهداً مضاعفاً في هذا الحج الاستثنائي، فعملت مع رئاسة شؤون الحرمين الشريفين من خلال إدارة التطهير والتعقيم والسجاد بالمسجد الحرام، على تخصيص (3.500) عامل للتعقيم والمراقبة في المسجد الحرام وحده، إذ تم تكليف فريق متكامل يتكون من أكثر من مائة شخص لتعقيم كل شيء داخل البيت الحرام، خاصة الكعبة المشرفة، صحن المطاف والمسعى، كل ساعتين؛ إضافة لتعقيم مقر سكن الحجاج والحافلات التي تقلهم. فبلغ استهلاك المطهرات في اليوم الواحد (54.000) لتر ومثلها من المعطرات، منها (24.000) لتر لتطهير المسجد الحرام يومياً، الذي كان يُغْسل عشر مرات في اليوم. وربَّما ارتسمت الدهشة على محياك أيها القارئ الكريم، إذا علمت أن كل هذا الجهد الهائل من غسيل وتعقيم وتطهير وتعطير، لا يستغرق أكثر من (15) إلى (20) دقيقة فقط في كل مرة لغسل الحرم الشريف وساحاته؛ إلاَّ أن تلك الدهشة سرعان ما تزول عندما تدرك أن بلاد الحرمين الشريفين هي التي علمت (طبيب العالم) مفهوم طب الحشود الذي أصبح منهجاً يتم تدريسه في كثير من دول العالم التي تدَّعي العظمة.
من جهة أخرى، عملت وزارة الشؤون البلدية والقروية على توفير أفضل نظام للتخلص من النفايات في العالم في الحرم المكي الشريف والمشاعر المقدسة.
وزارة الإعلام
استنفرت وزارة الإعلام تشكيلاتها كافة، المرئية، المسموعة والمقروءة، للقيام بدورٍ رائد في التوعية لترسيخ الوعي وتعزيز روح الالتزام، الذي يُعَدُّ أمراً جوهرياً في معادلة محاربة هذا الفيروس الخطير القاتل؛ مما ساعد كثيراً في توجيه الحجاج ومن يخدمونهم، فوجد جهدها استجابة طبيعية من المعنيين؛ الأمر الذي أفضى إلى تكامل في الوعي؛ وبالتالي نجاح في تعزيز جهود الجهات الأخرى لأداء الرسالة على أكمل وجه.
على صعيد آخر، غطى مشاعر حج العام 1441 هـ الاستثنائي هذا (3.000) صحفي؛ كما زاد عدد اللغات التي نقلت مشاعر الحج إلى عشر لغات بدلاً من خمس لغات.
من ناحية ثانية، تم إعداد أول فيلم سينمائي بعنوان (رحلة الحج)، يوضح مقاصد الحج السَّامية ومعانيه العظيمة، ويبرز جهود الدولة الحثيثة في رعاية الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة وخدمة ضيوف الرحمن. وقد تم إعداده بالتعاون بين وزارة الإعلام، وزارة الثقافة، هيئة الإعلام المرئي والمسموع ومعهد خادم الحرمين الشريفين لأبحاث الحج والعمرة بجامعة أم القرى، الذي كان له القدح المعلى في إنتاج هذا الفيلم.. وكلنا يدرك أن جامعة أم القرى هذه، حظيت بشرف اختيار الحج والعمرة هوية لها.
ويُعَدُّ هذا الفيلم الوثائقي الأول من نوعه، الذي يمثل باكورة الإنتاج الذي يتعلق بالحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة، حصيلة (45) سنة من العمل والتجربة. ويوثق رحلة المشاعر المقدسة من اليوم السابع من ذي الحجة حتى اليوم الثاني عشر منه. وهو فيلم سعودي خالص عالمي، كان حصيلة بحث علمي رصين وتعاون مثمر بين الدولة والقطاع الخاص؛ مدته (12) دقيقة. وهي المرة الأولى التي تقوم فيها جامعة سعودية بإنتاج فيلم وثائقي من هذا النوع مترجم إلى اللغة الإنجليزية، ويجري العمل حالياً على ترجمته إلى لغات أخرى.
وقد تم عرضه على قنوات التواصل الاجتماعي، فسجل (210) مشاهدة خلال الأيام الأولى المعدودة من عرضه، كما سيتم عرضه على القنوات المحلية والعالمية. ويهدف هذا الجهد الكبير لتحقيق الهدف الثالث من رؤيتنا الحكيمة الذكية (2030).
على صعيد آخر، أعد معهد خادم الحرمين الشريفين لأبحاث الحج والعمرة بجامعة أم القرى، (15) دراسة بخصوص حج عام 1441هـ الاستثنائي هذا، كما دشَّن ثلاثة كراسي بحثية بالتزامن معه:
1- كرسي البنية التحتية في مكة المكرمة.
2- كرسي إثراء تجربة ضيوف الرحمن.
3- كرسي أبحاث تتعلق بالصحة والوبائيات.
وزارة النقل
قامت وزارة النقل بصيانة (491) كيلو متراً مربعاً من الطرق التي تؤدي إلى المشاعر المقدسة، تسهيلاً لحركة النقل وتوفيراً للوقت والجهد، وتخفيفاً من الزحام والاختناق المروري الذي تترتب عليه كثير من المشاكل حتى في الأيام العادية في حركة السير الطبيعية، ناهيك عن اجتماع مثل هذا العدد في وقت واحد في المكان نفسه.
وبعد
عود على بدء، عند اندلاع موجة كورونا الأولى في ووهان بالصين، واشتعال أوارها كالنار في الهشيم في بلدان العالم كلها، وما نتج عنها من كارثة مرعبة لم يشهد العالم لها مثيلاً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.. عندئذٍ استبشر الحاقدون ومرتزقة الإعلام خيراً، وبشَّروا مشغليهم في الدولة الصفوية وعملائها في العراق، سوريا، لبنان واليمن وغيرها، بالفشل المحتوم الذي ينتظر السعودية التي ستضطر لا محالة مع هذا الواقع المرعب المرير في العالم كله، الذي فرضه هذا الفيروس الخطير القاتل، لتعطيل الركن الخامس من أركان الإسلام، وآنئذٍ يقتنع العالم الإسلامي بعدم قدرة السعودية على خدمة ضيوف الرحمن وبالتالي عدم أهليتها لرعاية الحرمين الشريفين.. هكذا صوَّر لهم عقلهم القاصر وخيالهم المريض.
غير أنه فات على أولئك الحمقى أن السعودية دولة رسالة، أنشئت أساساً لتحمل أعباء هذه الرسالة السَّامية العظيمة الخالدة، لاستمرار قافلة الخير القاصدة في رعاية الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة وخدمة ضيوف الرحمن؛ ولهذا لم يكن وارداً في حساباتها أن تستسلم مهما قست الظروف وتعقدت الحياة، ولن تسمح لأي طارئ مهما كان بتعطيل شعيرة الحج التي تمثل سدى رسالتها ولحمتها، ولم تنقطع مطلقاً عبر التاريخ الإسلامي منذ أن حج النبي صلى الله عليه وسلم حتى اليوم، فدون هذا ترخص النفس والمال والولد.
أجل، لم يكن لدولة الرسالة أن تقبل بتسجيل مثل هذه الصفحة السوداء في سجل تاريخها الناصع المشرق المجيد خلال عمرها المبارك؛ فاستنفرت الجهات المعنية كلها منذ اللحظة الأولى لإعلان ظهور وباء كورونا في الصين، استعداداً للأسوأ، كعادتها دائماً في تحويل التحديات إلى فرص ذهبية. فاستطاعت بفضل الله سبحانه وتعالى، ثم بذكاء قيادتها وحكمتها المعهودة وجهدها وصدق عزمها وعملها الذي يصل الليل بالنهار، ووفاء شعبها ووعيه وإدراكه لعظمة رسالة بلاده، استطاعت السعودية اجتياز أصعب اختبار في حياة المسلمين، بتفوق منقطع النظير.
فمنذ ظهور الجائحة لم يشهد العالم تجمعاً بشرياً مثلما حدث في المشاعر المقدسة في هذا الحج الاستثنائي التاريخي بالمقاييس كلها؛ ومع هذا، لم يحدث ما يعكر الصفو، ولاسيَّما فيما يتعلق بصحة الحجاج وسلامتهم؛ بل على العكس تماماً: أضافت السعودية صفحة جديدة مشرقة ناصعة البياض متفردة في مفهوم طب الحشود. وشاهد العالم كله عبر فضائياته بعشر لغات، أعلى مستوىً وأرقاه من الأمن والأمان والاطمئنان عرفه الناس بين جموع الحجاج؛ وفَّره ستون ألف موظف نذروا أنفسهم لخدمة نحو عشرة آلاف حاج، بمعدل ستة موظفين لخدمة كل شخص واحد من ضيوف الرحمن حفاة القدمين وهم يخاطبون الحجاج ويوجهونهم والبسمة تعلو محياهم والبهجة تغمر روحهم بهذا الشرف العظيم الذي ليس مثله في الدنيا شرف: هلا يا حاج.. من هنا يا حاج.. تفضل يا حاج.. تباعد يا حاج.. لنقس درجة حرارتك يا حاج.. أصعد يا حاج.. أنزل يا حاج.. كُلْ يا حاج.. إشرب يا حاج.. تقبل الله منك يا حاج... إلخ.
أجل، لقد شاهدت بالدمع الغزير نكران السعوديات والسعوديين لذاتهم، واستماتتهم في خدمة ضيوف الرحمن في هذا الحج التاريخي الاستثنائي، غير آبهين بما يمكن أن يصيبهم من تعب ونصب وربَّما فيروس خطير قاتل، لا قدَّر الله. وهكذا أدى الحجاج شعائرهم في أكثر البيئات سلامة وأمناً في العالم، ولم تُسَجَّل حتى حالة واحدة للإصابة بفيروس كورونا، في وقت شهدت السعودية (1629) إصابة جديدة بالفيروس في يوم عرفة وحده، إضافة إلى (16) حالة وفاة، لم تكن بينها حتى حالة اشتباه واحدة بين الحجاج بحمد الله وتوفيقه؛ بل على العكس تماماً: زادت نسبة شفاء المصابين بالفيروس في السعودية إلى (85%) في الوقت نفسه الذي تجاوز عدد الإصابات في العالم (17) مليون إصابة وأكثر من (600) ألف حالة وفاة؛ وشهدت أعظم دولة في العالم حالة وفاة واحدة كل دقيقة، أي (86.400) حالة وفاة في اليوم بسبب فيروس كورونا.
أجل، هكذا هي السعودية دولة الرسالة التي لم يكن لها أن تدَّخر وسعاً في خدمة رسالتها التي ضحَّت من أجلها بالنفس والنفيس. والحقيقة، لأول مرة أجد نفسي محتاراً في كيفية شكر أولئك الأبطال الذين حقَّقوا هذا النجاح الاستثنائي التاريخي الهائل، الذي لا مثيل له على الإطلاق.. فالشكر والتقدير والعرفان والامتنان لقائد مسيرتنا المظفَّرة، حادي قافلتنا القاصدة أبداً بإذن الله، خادم الحرمين الشريفين، سيدي والد الجميع الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود.. والشكر والتقدير والعرفان والامتنان لأخي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود، ولي عهدنا القوي بالله الأمين، نائب رئيس مجلس الوزراء، وزير الدفاع.. شكراً وزارة الحج والعمرة.. شكراً لجنة الحج المركزية.. شكراً وزارة الداخلية بتشكيلاتها كافة: رجال الأمن الأشاوس، قوات أمن الحج، الإدارة العامة للمرور، أمن الطرق... إلخ.. شكراً وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد.. شكراً وزارة الشؤون البلدية والقروية.. شكراً وزارة النقل.. شكراً رئاسة الحرمين الشريفين.. شكراً جامعة أم القرى.. شكراً الهيئة العامة للأرصاد وحماية البيئة.. شكراً المركز الوطني للوقاية من الأمراض ومكافحتها.. ومسك الختام: شكراً وزارة الصحة التي أدهشت الدهشة.
وقطعاً، حبل الشكر موصول لكل سعودية، ولكل سعودي، ولكل مقيمة، ولكل مقيم قدَّم للحجاج ولو سواكاً من أراك.. وبالطبع، الشكر موصول أيضاً لجميع الحجاج الذين كانوا حقَّاً عند أكثر من حسن الظن بهم في اتباع التعليمات والإرشادات والتعاون مع الجهات التي نذرت نفسها لخدمتهم؛ مبتهلاً إلى الله العلي القدير أن يشكر سعيهم ويتقبل حجهم، ويجزي قيادة هذا البلد الطاهر الطيب المبارك وشعبه الوفي النبيل كل خير، ويعيننا على أداء هذا الرسالة السَّامية العظيمة التي هي وسام على صدرنا وشرف لنا كلنا ما بعده شرف. أمَّا أولئك الحاقدون والمرتزقة المأجورون، فليموتوا بغيظهم.
وختاماً
ليسمح لي القارئ الكريم في إيراد بعض معلومات مهمة لتذكير أولئك الحمقى الذين يعادون دولة الرسالة، وباعوا ضمائرهم وعقيدتهم بثمن بخس، متوهمين أنهم يملكون عصا موسى لتعطيل مسيرة الخير القاصدة.. ولفائدة الجميع أيضاً:
• خادم الحرمين الشريفين، سيدي الوالد الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، الذي حقَّق هذا النجاح المذهل المدهش في هذا الحج الاستثنائي التاريخي، هو أيضاً صاحب التوسعة الثالثة للحرم المكي الشريف والمشاعر المقدسة التي تُعَدُّ أكبر توسعة في تاريخها، بحيث إذا قيست المساحة التي تحققت للمشاعر بموجبها، نجد أنها تساوي المسافة من جدة إلى الدمام، واستخدم فيها (80) ضعفاً من وزن الحديد الذي استخدم في تشييد برج إيفيل في باريس، وتم تنفيذها من خلال (40) ألف خارطة، وأنفقت فيها (4.500.000) ساعة عمل، حسبما أفاد الأخ عبد الله بن جنيدب، المشرف العام على هذه التوسعة الفريدة في تاريخ المشاعر المقدسة، منذ بدايتها في عهد المؤسس الملك عبد العزيز آل سعود عام 1344-1925، التي تحقَّقت بفضل الله، ثم بفضل القيادة الرشيدة صاحبة العزم الذي لا يلين.
• فأصبح الحرم الشريف اليوم يتسع لثلاثة ملايين مصلٍ، فيما اتسع صحن المطاف لمائة وخمسين ألف طائف، وزاد عرض المسعى عشرين متراً.
• أصبحت الجمرات اليوم تتألف من خمسة طوابق، ارتفاع كل طابق (12) متراً، تتسع لثلاثمائة ألف حاج في الساعة الواحدة.
• يستخدم في كسوة الكعبة المشرفة التي يتم استبدالها سنوياً عند موسم كل حج اقتداءً بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، (700) كيلو جرام من أجود أنواع الحرير في العالم، ويستخدم ماء الذهب لنقش الآيات الكريمات عليها تعظيماً للكعبة المشرفة، ويعمل على إنجاز هذا العمل المحكم الدقيق أكثر من (160) شخصاً من أكثر الفنيين مهارة.
• في الحرم المكي الشريف اليوم:
- (680) سلماً كهربائياً.
- (159) مصعداً كهربائياً.
- (20) مؤذناً لكل وقت، لكل مؤذن ملازم وآخر احتياطي لأي طارئ لا قدَّر الله، فليس هنا ثمَّة شيء متروك للصدفة.
• يُعَدُّ جبل عرفة المشعر الوحيد الذي يقع خارج حدود الحرم، وتبلغ مساحته (10) كيلومترات مربعة فقط، ومع هذا يتسع في بعض مواسم الحج لثلاثة ملايين حاج، يقفون على صعيده الطاهر في يوم الحج الأكبر.
• تبلغ مساحة مسجد نمرة الذي يقع ثلثه في وادي عرنة، بينما يقع ثلثاه الآخران في مشعر عرفة، (124) ألف متر مربع، ويتسع لأربعمائة ألف مصلٍ.
• أصبحت بعض المشروعات التي تنفذها دولة الرسالة في مواسم الحج، منهجاً يتم تدريسه على مستوى العالم، ولاسيَّما فيما يتعلق بإدارة الحشود وطبها والنظافة والتخلص من النفايات. ويكفي هنا أن أنقل لأولئك الحمقى الذين يحاولون جاهدين تعطيل مسيرة خيرنا القاصدة، شهادة الأمين العام لمنظمة الصحة العالمية (طبيب العالم) في هذا الحج الاستثنائي التاريخي تحديداً: (لقد أصبحت السعودية اليوم نموذجاً نوعياً ينبغي أن يحتذى فيما يتعلق باتخاذ الإجراءات والالتزام بالتعليمات والإرشادات).
• خلال هذا الحج الاستثنائي التاريخي، قامت رئاسة الحرمين الشريفين بأكثر من (400) ألف عملية تعقيم للمياه وتطهيرها.
• ينقل قطار المشاعر المقدسة نصف مليون حاج خلال ست ساعات فقط.
• تضم مكتبة الحرم المكي الشريف (52) ألف كتاب.
• شقت وزارة النقل الأنفاق عبر الجبال، وشيدت الطرق الدائرية حول مكة المكرمة.
• تزامن حج عام 1441هـ الاستثنائي التاريخي هذا، مع عودة قوية لفيروس كورونا في العالم، بمعدلات إصابات كبيرة بسرعة شديدة، خاصة في يوم عرفة الذي شهد تسجيل أكبر عدد للإصابات في العالم، وارتفاع عدد الوفيات ولاسيّما في الشرق الأوسط. ومع هذا، لم يتم حتى تسجيل حالة اشتباه واحدة بين الحجاج.
• ستكون خدمة ضيوف الرحمن عام (2030)، رقمية مائة بالمائة.
• كان أول إعلان للمؤسس الملك عبد العزيز آل سعود في الحج: (الحج آمن)؛ وسيبقى كذلك إلى قيام الساعة بإذن الله تعالى.
• ما أن عاد الحجاج إلى من حيث أتوا، حتى تم إخضاعهم إلى حجر صحي منزلي، أصبحوا بعده أكثر البشر خلواً من إصابة بفيروس كورونا.
أمَّا الخبر السعيد، الذي يجعل أولئك الحمقى المأجورين يموتون بغيظهم حقَّاً: ما أن غادر الحجاج مكة المكرمة، حتى بدأت الجهات المعنية للإعداد لحج العام الحالي (1442هـ).
فخبروني بربكم يا هؤلاء: من يقوى على تحويل التحديات إلى فرص بهذا الشكل المدهش المذهل، ويستطيع تحقيق مثل هذه الإنجازات كلها التي تشبه المعجزات، فيثبت للعالم أجمع عزيمة الإنسان في مواجهة الكوارث والأوبئة.. غير دولة الرسالة؟.