«الجزيرة الثقافية» - محمد هليل الرويلي:
قبل أن تَمحو الطّلاسةُ أعيننا، ويُمحى دواخلنا من أثر المَنْظر والمَخبَر! وقبل أن نَعبرَ ونُعبّر عن الأحاسيس وخلجات، تضورت الأعماق، تستصرِخُ ولا صوت! تستنطِقُ ولا دالّ على مَدلُول. وحده الذهول مُخيم, جاثم يَذرعُ أقاصي معتمق مكبُوتة وهو يُجاورُ الدّهشة والأسى. أخيذ اغتُصبَ وجعُه يوم الوجع! ويوم الفرح استُتلّت سرابيل مجده وعزه؛ فخرج بصورة باهتة الألوان مخفية المعالم بلا مضمون أو ذكرى يذكره بها العالم..
في ذلك المشهد «الصورة» تطلُبنا الإجابة؟! لكننا آسفين، لم ننجح بترجمة ما نود قوله في الصورة, أصوات لغتنا الموشاة, غابت قبل المغيب وملامح خطابنا المُرقّن عصيّ على الشروق..
«الجائع السليم يزدرد الرغيف القفار يحس في أكله من اللذة والاشتهاء ما لا يحسه من يجلس إلى المائدة الفاخرة وهو متخوم أو ممعود, وإنما اختلفت الرغبة واختلف الاشتهاء فاختلف الذوق والشعور. إن إحساسنا بشيء من الأشياء هو الذي يخلق فيه اللذة، ويبث فيه الروح معنى (شعريًّا) تهتز له النفس.. فليست الرياض وحدها ولا البحار ولا الكواكب هي موضوعات الشعر الصالحة لتنبيه القريحة واستجاشة الخيال, وإنما النفس التي لا تستخرج الشعر إلا من هذه الموضوعات كالجسم الذي لا يستخرج الغذاء إلا من الطعام المتخير أو كالمعدم الذي يظن أن المترفين لا يأكلون إلا العسل والباقلاء. كل ما نخلع عليه إحساسنا وأحلامنا ومخاوفنا هو شعر وموضوع للشعر؛ لأنه حياة وموضوع للحياة» عباس محمود العقاد من مقدمة ديوان «عابر سبيل».
الثقافية وجّهت أسئلة الصورة في هذا التقرير (الطبيعة بمعالمها الساحرة ومفاتنها الخلاقة منجم متكرر لهذا التدفق المتكرر) لاثنين من أبرز أسماء المشهد؛ كونهما صاحبَي مدية شطيرة وأزاميل عصية, وهما في الوقت نفسه يتجليان بحسبان مقصود، ينفثان شعورنا المقتصد أمام صورة عجزنا التعبير عنها، أو لم نحسن معها التعبير.. وكلما جاءا صادحين لغتهما استقرت وقرّت أرواحنا, ونستريح وهما ينفثان سحرهما, وعلِمَ النّاس أن «الصّورة» تبقى صورة قبل أن يقولا فيها الشعر - فإذا ما ألقيا شعرهما وقولهما ومنقولهما - وقد كُنا أعلنا أنها أعيتنا, يومها كانت أكبادنا مفطورة سادرين..
شارك في التقرير الناقد والروائي (عواض شاهر العصيمي)، والناقد الشاعر (محسن علي السُّهيمي).. الطبيعة بمعالمها الساحرة ومفاتنها الخلاقة منجم متكرر لهذا التدفق المحاكي.. والحياة بمباهجها وآلامها بيئات خصبة استثارت القرائح - خاصة عبر حاسة الإبصار- خلال منظر طبيعي أو صورة فوتوغرافية أو لوحة تشكيلية..
في صحراء سكنته, وأفرد لها القصص والروايات.. ذاكرة مكنوزة في ذهن بدوي، تتوقد كلما أشعل عودًا للبخور من أجل تطييب صورة الصحراء، تشكل الدخان لجلب أسرار قاطنيها وسبل فجاجها المسلوكة. وعبّر عنه بمخياله الممتد..
رأى غزالًا شاردًا، نذر قوائمه الريح، وحوافره تشق الكثيب, إثر محاولة جادة للنجاة، وكتبه على صورته أو صور كتابته «أنت معهم على أي حال, معهم رغم أنفك. يتأخرون عنك قليلاً ريثما تبلغ أقصى ما لديك من ركض ثم يفاجئونك من أقرب نقطة ليقتلوك في النهاية. غير أن ذلك لا يقلقك كثيرًا؛ فأنت تركض ليس فراراً منهم وإنما كي لا تستهين بك الصحراء والرصاصة».
وكتب عن واحة وسط كثيب رمال ذهبية, يتوسطها غدير تحيطه الآجام «في الصحاري النفودية الرمال أكثرية مرتاحة, الماء فئة عاملة, الشجر خفراء الموت, ندماء الحياة». لو تتبعنا ما صوره عواض من مقدرات أزلية وقرابين بدعية بشكل آخر لما كفانا العودة «لهذلا وفرحان القنّاص ونويشر» في رواية «قنص» كيف كانت صورهم, وصور أبطال «على مرمى صحراء» و»المنهوبة» كيف صور لواعج الحب فيها وفي أعمال أخرى قصصية وروائية..
بعدها أتعجب إذا ما علمنا أمر أي علاقة متصورة بشكل جديد بين الصحراء والناقد والروائي «عواض العصيمي» الصورة مستقر وسكن.
أمّا ما كتبه (عواض العصيمي) في هذا التقرير فهذا نصه:
الصحراء مهوى حكاياتي
أنا من المولعين بالصحراء، وهذا في الظاهر أمر طبيعي؛ فأنا أحد أبنائها المألوفين بالنسبة إليها، لكن الأهم من ذلك هو أنني مولع بها كمهوى حكاياتي وقصصي مغلف بالنوستالجيا والغموض إلى درجة أن الإمساك بها في لقاء سردي يسبقه الشك في اللقاء، وتثقله لهفة المشاركة. هو نوع من العشق على نحو ما يكون العشق لمحرمٍ يترتب عليه إثم الفعل، بحيث تكون الإجراءات التي تمهد له سرية، ويخشى عليها من الفضح. لا أستطيع أن أقول للصحراء حين ألتقيها تعالي نتمشى قليلاً في مرمى البصر العام، بل لا بد من إغلاق باب الخيمة والتوسل بالعتمة الداخلية لأقول لها والآن ما هي الجملة المناسبة لأبدأ السطر الأول. من أي مدخل أستهل كلامي؟ إنني أحملها في داخلي على هذا النحو الغرائبي الهامس المتلمس الحيي في الكلمات الأولى بالتحديد. هي جزءٌ من وزني في عالم الأشياء الظاهرة، وهي جزء من كتماني في عالم الأسرار. لذلك تبدو الصورة الملتقطة فوتوغرافياً من البرية أشبه في شكلها الظاهر برحلة قصيرة على الأقدام، غير أنه لا بد من الاستعانة بمغامرة رجل حكاء من ناحية، وذهنية تأملية من ناحية أخرى؛ لتكتمل الصورة في شكلها الأكبر، الشكل الناطق بمكنوناته في الطبيعة، وفي الذات التي تستقرئ ما جهرت به العدسة في آن واحد. صورة الجبل على سبيل المثال تؤخذ من مسافة قريبة فيظهر فوراً الإنسان الذي يعرف تضاريسه، البدوي المقيم بجواره، وعندئذٍ تتحدث مكنونات الجبل عن خبرة الجار الذي يعرف الصغيرة والكبيرة في الجزء الذي ظهر منه. وغني عن القول أن إفصاحات البدوي هنا لا تستحضر فقط تفاصيل الطبيعة في الصورة وإنما علاقة الإنسان بالمكان، بالنظر إلى السفح الذي شكل المرتقى الأولي لمراوداته يوم كان صغيراً، غايته الوصول إلى ما فوق القاعدة بقليل، ثم لما كبر واشتد عود مغامراته راود السكون العالي في القمة، وهكذا في بقية تفاصيل البيئة من شجر، وآبار، وسهول، وتلال، وأودية. الإنسان هو الصورة في الطبيعة، والطبيعة هي الإنسان في الصورة، الإنسان الذي رأى وجرب واستقرى وحاور وألفَ وأحبَّ.
وهنا وقفة أخرى مع ضيف متفضل, مقالاته مثل شِعره، لها خاصية الاستبصار من زوايا مختلفة, تتشكل أبياته وقوافيه كتشكل أنهار الغابات. ضيفنا الكاتب والناقد الشاعر (محسن السُّهيمي) عمد تفكيك الرّموز، وفتح المغاليق فيما يكتب. قال في «صورة طفل إفريقي»، طوته المسغبة، وثنته الكروب والخطوب، وهو غِر لم ترعه ظروف حياته بسخاء:
تَبكي مِنَ الفَقْـدِ أَم تبكي مِنَ السَّغَـبِ؟
في البِيـدِ مَنفـاكَ في بحـرٍ مِـنَ الكُـرَبِ
عَينــاكَ وارتْهُمـا كفـاكَ مـنْ أسَـفٍ
علـى فَـواتِ الصِّبـا واللهـوِ واللعِـبِ
لا شيءَ يَحميـكَ من بــردِ الشِّتـاءِ ولا
من قَيْـظِ آبٍ.. ولم تَسلـمْ مِـنَ العَتَـبِ!
وكم سجرتني أبياته المعنونة «رحلة بذرة»، وصف بها زهرة شقت حجرًا. صورة مشحونة بالتفاؤل والعصامية, ورقّة موصولة إلى طريق نجاة نحو الحياة. يوم لا حياة إلا من هُنا..
قال فيها:
جاءتْ مع الريحِ لا تَقوى على النَّظَـرِ
ثم ارتضتْ في ظلامِ العصْفِ بالحَجَـرِ
فشـقَّ فـي صَـدرِهِ دربًـا لبُغيتِهـا
فاستأنستْ ومضـتْ تَنمُـو على قَـدَرِ
مياسـةَ القَـدِّ.. تجلُـو العَيـنَ رُؤيتُها
فواحةَ الزهْـرِ.. تُـغني كُـلَّ مُعْتَبِـرِ
أما ما كتبه الناقد والشاعر محسن السُّهيمي فقال فيه:
المقيم المصادق على قدرت المشاعر
يتفرد الشاعر بامتلاكه (المَلَكة الشِّعرية) التي تمكِّنه من تجسيد مشاعره وأحاسيسه، فيستحضرها في الموقف الذي يتطلب حضورها فيه؛ لذا تغدو الطبيعة بمعالمها ومفاتنها، والكون بامتداده، والحياة بمباهجها وآلامها، بيئات خصبة، تستثير قريحته التي تتأثر - خاصة عبر حاسة الإبصار - بهذه المكونات، من خلال منظر طبيعي أو صورة فوتوغرافية أو لوحة تشكيلية، حيث ينظر لتلك المنظومة من زوايا مختلفة غير التي ينظر منها الآخرون، ثم يعمد لفتح مغاليقها وتفكيك رموزها، فيغدو بمنزلة المترجم لمبهماتها. بطبيعة الحال لا يمكن أن ينساق الشاعر خلف كل منظر أو صورة أو لوحة ليضع بصمته الشعرية عليها، وهذا ما لا يدركه البعض؛ فيظن الشاعرَ مجردَ آلة تقف أمام الصورة فتُنتج نصًّا وتنتهي المسألة. الصورة وغيرها ما لم تكن لافتة للنظر، ذات قيمة جمالية عالية، تحمل أبعادًا خفية لا يدركها الناس كافة، فليس باستطاعتها استدرار مشاعر الشاعر لينتج فيها بيتًا أو بيتَين أو نصًّا.
مسألة أخرى، هي أن هناك فرقًا بين تأثر الشاعرِ بالمشهد الماثل والمشهد المتخيَّل ووصفهما. نعم ربما يكون المشهد المتخيل أكثر صعوبة؛ لأنك تستحضر ما هو غائب، لكن الذي يخفى على البعض هو العنصر الآخر المشارِك في المشهد وهو (المتلقي)؛ فالمتلقي حينما يقرأ نصًّا مصاحبًا لمشهد ماثل أمامه - صورة أو غيرها - هو يقف موقف المقيِّم والمصادق على قدرة الشاعر، أو المخالف لها؛ كون تفاصيل المشهد ماثلة أمامه (المتلقي)، وما خفي منها تُظهِره براعة الشاعر، وهذا محك آخر. في المقابل قد لا يهتم المتلقي كثيرًا بوصف المشهد المتخيل؛ كونه ليس حاضرًا أمامه؛ فليس بمقدوره الحكم على براعة الشاعر في وصف المشهد وتفكيكه. نظرة الشاعر للصورة ليست نظرة تقليدية عابرة، تأخذ بظاهر المنظر أو الصورة أو اللوحة، وإنما تجده -متى كانت الصورة أو غيرها تستحق - يتفاعل معها وجدانيًّا، ثم يغوص في تفاصيلها؛ ليلتقط منها ومضات تغيب عن المشاهد العادي، ثم يعمد لبناء رؤيته من خلال نصٍّ باذخ يُدهِش القارئ، ويصادر آفاق توقعه؛ وهو ما يجعله يعيد قراءة الصورة في محاولة منه للوقوف على مَواطن الجَمال التي وقف عليها الشاعر؛ لذا تدهشني معالم الطبيعة ومفاتنها، خاصة جبال تهامة العالية حينما تعتمُّ بالسُّحْب، وتدهشني كثيرًا الصور الفوتوغرافية، ثم اللوحات التشكيلية، التي تجسد جميعها معالم الطبيعة ومفاتنها، ومباهج الحياة وآلامها. ومَيْلي للصور الفوتوغرافية تأتَّى من كونها تجعل الشاعر في محكمة المتلقي الذي يصدر حكمًا صادقًا بِناء على ما يراه ماثلاً أمامه ممثلاً في (صورة أو لوحة... ونَص). وعليه فقد أصبحت الصورة الفوتوغرفية باحترافيتها، واللوحة الفنية بجودتها، مصدر إلهام للشعراء، زاحم المعالم الطبيعية نفسها، وربما تفوق عليها، وهو الأمر الذي يستحق الدراسة بوصفه فنًّا أصبح له حضوره، ولا يزال ينمو ويتمدد في ظل التقنية الحديثة التي أمدته (الفنَّ) بكم وافر ومتنوع من الصور الفاتنة واللوحات البديعة التي قربت له الطبيعة ومعالمها ومفاتنها، والحياة ومباهجها وآلامها، فانثال شِعرًا.