عندما سُئِلَ نيوتن عن تصنيفه لمكانته العلمية قال: ما أنا إلا طفل يلعب بالحصى على شاطئ البحر!.. كان صادقاً مع السائل ومع نفسه؛ واثقاً من قدراته؛ مدركاً لضحالة معرفته قياساً ببحر العلم. فهو ليس إلا طفلاً على الساحل؛ يتوجب عليه تعلم السباحة والغوص؛ لا لكي يخوض غمار البحر كله؛ إنما ليقدم ما تيسر لخدمة البشرية.
ما قاله نيوتن واضح وجلي، ولكن ما لم يقله؛ وتضمنته كلماته؛ هو أن العالِم لا يولد عالِماً، إنما يصبح عالماً بما اكتسبه من مهارة اللعب بالحصى أو السباحة أو الغوص في بحر العلم. فالمهارات مكتسبة وليست غريزة؛ ولا هي «موهبة». وإذا كان هناك فوارق بين الناس، فذلك لأنهم لم يكونوا متكافئين بالفرص. وتوجد نماذج لدول لا تملك ثروات طبيعية، لكنها بلغت العلا بتوفير التعليم وإتاحة الفرص لكل المواطنين.
وما تضمنته كلماته أيضاً هو أن المعرفة ليست تكديس معلومات، إنما هي توظيف المعلومات حتى لو كانت ضئيلة. أي أن المعرفة ليست للتفسير وحسب، بل للتغيير. وهذا الأمر لا ينطبق على العلم فقط، إنما يشمل الآداب والفنون والثقافة وكل ما يتعلق بالوعي الجمعي!
«الثقافة الفردية» مهما بلغت من مستوى ليس لها أي قيمة عملية إذا لم تنشد التغيير الاجتماعي. وإذا بقيت أكداس من المعلومات في حوزة فرد واحد، تبقى غير ذات جدوى حتى لذلك الفرد. لذلك من الخطأ أن نطلق على الثقافة مصطلح «ثقافة فردية». ولا بد للفرد أن يكون فاعلاً لينال صفة مثقف.
بيد أن ليس كل مثقف فاعلاً اجتماعياً هو إيجابي بالضرورة! فيوجد مثقفون سلبيون أو «تراثويون»؛ لا أحد يستطيع نزع صفة الثقافة والفاعلية عنهم؛ لكنهم يحاولون جر المجتمع إلى الوراء؛ ويشلّون كل جهد لاكتساب المهارات أو التفكير بالتلقين؛ ويحاولون الاستيلاء على المعرفة التعليمية والإعلامية ولو بالقوة؛ ثم ينادون بكل وقاحة «يجب الاعتراف بالآخر». وأقول بوقاحة لأنهم ضد كل من يخالفهم، ولا ينادون بذلك إلا للتستر وطمس الحقيقة.
المثقف الإيجابي هو الذي تكون فاعليته من أجل تقدم مجتمعه! وهذا الفارق الكبير بين نوعين من المثقفين مرتبط مباشرة بالصراع الاجتماعي القائم، أي بالصراع بين ظالم ومظلوم. فالتراثوي يسوغ ويبرر الظلم، بينما المثقف الإيجابي أو الحداثي يرفض الظلم. وهذا الصراع موجود في كل المجتمعات دون استثناء، وهو موجود أيضاً بين المجتمعات على المستوى الإقليمي والدولي. والحرب بين هذين النوعين من المثقفين مستمرة ودائمة تاريخياً وجغرافياً!
الحرب بين الطرفين تتكون من معارك يتفوق فيها هذا الطرف أو ذاك، ولكن محصلة الحرب على المستوى الاجتماعي أو الإقليمي أو الدولي هي لصالح التقدم إلى الأمام! وليس كل المثقفين الإيجابيين يفهمون هذه الحقيقة. ولذلك إذا خسروا معركة ما؛ يتحول جزء منهم إلى الطرف الآخر؛ ويصبح أشد عدوانية تجاه المظلوم. ويلجأ جزء آخر للتقوقع على ذاته؛ واجترار الماضي «المجيد»؛ ونفي الأمل؛ والترويج للمخلص الأسطوري ...الخ.
مثل هؤلاء؛ إذا دخل معك في حوار خاص؛ لا يجيز لك الاختلاف معه ولو جزئياً؛ أي أنه يفقد احترامه وتواصله لك وللآخر. وهم بذلك يفقدون ما تبقى لديهم من فاعلية اجتماعية؛ أي أن «معارفهم» تتحول إلى «سراب» لا جدوى منه. وإن دخل مثل هؤلاء معك في حوار عام «على الهواء»؛ فلن يتوانوا عن إحباط العزائم وتثبيط الهمم وزرع التشاؤم من المستقبل. وقد يلجأون إلى بذاءة الألفاظ أو الشتائم لهذا الغرض.
لا شك أن هناك جزءًا يسيراً من المثقفين الإيجابيين يبقى متشبثاً بالأمل قولاً وعملاً، لكن فاعلية هذا الجزء اليسير تفوق فاعلية التراثيين والمحبطين والخونة مجتمعين. فالأمل ورؤية بصيص النور تبقى دائماً أقوى من «المعرفة السرابية».
** **
- د. عادل العلي