شُهر الألمان في العصر الحديث بالصناعة والتقدم التقني، حتى صار عندنا تصوّر عن الصناعات الألمانية يرادف معنى المتانة والقوة والجودة... وعلاقة عالمنا العربي بألمانيا ليست علاقة استعمار، بل هي علاقة تعاون وتجارة ومنافع...ونحن نتذكر في الوقت نفسه أن ألمانيا هزمت في الحربين العالميتين الأولى (1914 – 1918م) وكذلك الثانية (1939 – 1945م)، حين وقفت أمام عدد كبير من الدول الأوروبية، وحالفتها اليابان في حرب طويلة ضروس، لم تبق ولم تذرْ من العمران المادي، ولا من المشاعر الإنسانية حينذاك إلا قليلاً......وندم عليها الأوروبيون جميعاً.
يتوقّع الإنسان من دولة هزمت مرّتين في حربين عالميتين طاحنتين أن تحتاج إلى قرنين من الزمان، أو ثلاثة كي تستعيد مكانتها الصناعية والعالمية... ثم فجأة وجدنا بواكير الاتحاد الأوروبي قد بدأت مباشرة بعيد الحرب العالمية، وقد نهض بحناحين اثنين حلّقا به، وهما ألمانيا وفرنسا... مع ما بينهما من الحروب التاريخية، ثم وصلنا إلى سنة 1989م لنرى سقوط جدار برلين، ثم في التسعينيات يشهد العالم وعي ألمانيا الحضاري والقومي ممثّلاً في إعلان وحدة ألمانيا، ثم اندماج الدولتين، مع تحمّل ألمانيا الغربية كل العبء الاقتصادي الثقيل للاندماج من توحيد العملة حينذاك ومن بناء ألمانيا الشرقية! كل هذا تم في 50 سنة فقط، وهي لا شيء يذكر في عمر الشعوب وفي حركة التاريخ!!.
وبعد هذه المقدمة السّريعة لجمع الأفكار يبرز للقارئ المفكّر والمتأمل المتعمق سؤال ملحّ: كيف فعل الألمان ذلك؟ وأيّ قوة اقتصادية تلك التي تحمّلت كل هذه الأعباء؟ وأي عقول وطنية كانت وراء ذلك؟
يظن بعضنا أن ألمانيا اعتمدت على الصناعة والتنمية فقط لتحقيق ذلك. لكن هذه هي الصورة المرئية، أما الصورة غير المرئية فهي القوّة الألمانية النفسيّة والعقل الألماني الذي لا يستند فقط إلى مصانع، بل يستند إلى وعي ذاتيّ وثقة بالغة وإحساس بالتماسك الثقافي والوطنيّ والسياسي يندر وجود مثله.
لعب الألمان دوراً كبيراً في الفلسفة الأوروبية وخاصة في الفلسفة السياسية وجالوا وصالوا لتكوين العقل الأوروبي السياسي والديني، وحسبنا أن نذكر التأثير الذي قام به مارتن لوثر في مواجهة الكاثوليكية فقد نهضت هذه الحركة الدينية للانعتاق من تقاليد قديمة اتخذت الشكل المقدس.
ومن المحتمل أن هناك تأثيراً إسلامياً ربما يوجد مساربه بين صخور التاريخ في نواح عدة من هذه الحركة. ولا ننسى هنا أيضاً العبقرية الألمانية في اختراع الطباعة حين بدأ بها يوهانس جوتنبرغ في مدينة ماينز الصغيرة فكانت قفزة في التاريخ العلمي والمعرفي للبشرية..
وتبرز في الفلسفة وجوه ألمانية كثيرة منها العملاقان إيمانويل كانت وهيجل الذي عني بفلسفة التاريخ أو روح التاريخ، وأوزفالد شبينجلر الذي حاول أن يحلل فلسفة الحضارة وحركة نموها في كتابه الضخم (انحطاط الحضارة الغربية)، ثم العبقرية العلمية مع عملاق الفيزياء ألبرت آينشتاين. ويجب ألا ننسى دور الألمان المتميّز في الدراسات الاستشراقية؛ إذ هم أول من أعتق الدراسات العربية والاهتمام بها من دراسات النصوص الكتابية المقدسة، لتصبح دراسة العربية هدفاً مستقلاً. وإلى يوم الناس هذا يصعب أن يهتم دارس أو باحث بالاستشراق ونتائجه، دون الولوج من البوابة الألمانية الواسعة الثرية جداً في هذا المجال.
هذه روح ألمانية متميزة تحب التنوير والتذوق وتحب العمل وتقدّره، ومغرمة بالإتقان وبلوغ النهاية في الجودة، وهي تؤمن بقوّة العقل، وموضوعية الدرس، وتقدس مع ذلك روح الدولة والمجتمع والحريّة وفلسفة علاقة المواطن بها. وهي تجربة رأيتها وخبرتها من كثب، ولم أرها بهذه الصورة من الوضوح والصفاء عند أحد مثلهم.
هي روح مبتكرة تؤمن بقدراتها الذاتية وسموّ إمكاناتها وشموخها كأبراج الفن القوطي الذي اشتهرت به، أو كجبال الألب جنوب البلاد.
ومع الهزيمة المرّة في الحربين كانت الثقة النفسية بالروح الألمانية قوية؛ فقد انهزمت مادياً، ولكن لم تنهزم نفسياً، بل تطهرت من النازية العنصرية المجحفة.
وترى هذه الروح الواثقة في الأدب الألماني والتراث والموسيقى والشعر وفي الصناعة وتخطيط المدن والحفاظ على البيئة... وقل أن تجد ألمانياً أو ألمانية لا يهتمّ بهذه الأمور أو ببعضها...أو لا اهتمام له بفن من الفنون. وهي روح لم تسيطر عليها الرأسمالية الفردية كما في كثير من دول الغرب، والتي سوف تنتج الطبقية الاجتماعية لا محالة، بل لا تزال الرأسمالية هناك ممثلة من خلال الطبقة الوسطى وتجارة العائلات والأسر. وانقراض الطبقة الوسطى في أي مجتمع نذير شؤم وانحراف في المسار الحضاري، حين يكون الناس قسمين فقط أغنياء وفقراء.
والتعليم في ألمانيا مصمّم بصورة فريدة حيث تتعدد المدارس تعدداً علمياً يسمح للطالب بأن يختار طريقه، ثم يسمح النظام له أن ينتقل مراعياً القدرات الفردية ومبرزاً القدرات المهنية والميل إلى الصناعات، فكم من طالب لديه ميول أدبية وهو فيزيائي، وكم من طبيب شاعر... وفي تاريخنا العربي حالات عديدة من هذا النوع... إن صرامة التخصّص العلمي والجمود على النظام الصارم المتكلّس في تحديد الدّراسات في كثير من الدّول قد أضاع قدرات كثيرة ومواهب عديدة لدى الطلاب من ذوي الثراء الذهني والتنوع المعرفي، ولكن ألمانيا تحاول بإصرار ألا يسقط طالب واحد كسمكة صغيرة خارج شبكة التعليم والتنمية والتطوير...
وهي روح تهتم بلغتها الألمانية كثيراً جداً وتفضّلها، وتقبل النّقد، ولكنها تغرم بالمراجعة، وتدرس تاريخها بوعي تامّ وموضوعية، ولكنها لا تعيش مآسيه وأزماته بل تدرسه للعبرة وتتأمل فيه للانطلاق نحو أفق جديد. وحين كنت بينهم شغلت كثيراً جداً بالمقارنات المؤلمة بين وطننا العربي وبينهم، وكم تمنيت أن ننقل من هذه الروح الحضارية الواثقة شهاباً قبساً لعلنا نستفيد منه!!.
** **
- د. أحمد بن محمد الدبيان
arabic.philo@gmail.com