د. إبراهيم بن محمد الشتوي
وفي كتب تطوير الذات يتحدث بعض المعنيين عن التواصل في الأماكن العامة، وفي الحفلات المختلطة (تخلط عدداً من الناس في مجالات مختلفة)، فيذكرون أن على الإنسان ألا يفيض في حديث عميق، وألا يفصل القول خاصة فيما إذا ما كان ما يقوله من اختصاصه، ومما يتقاضى عليه الناس أجوراً في العادة، كما يذكرون أن الحديث في هذه الأماكن ينبغي أن يكون حديثاً عاماً يجري فيما يتحدث فيه الناس عادة في مجالسهم، وأن على صاحب الاختصاص إذا سئل في اختصاصه أو الطبيب إذا سأله أحد الجالسين عن علة لديه ينبغي أن يكتفي بالحديث العام وأن يحيله إلى العيادة.
وهذا يعني أن لدينا نوعاً من الحديث يبعث على الخصام، وينشر الفرقة بين المتحابين، وحديثاً إنما ينشغل به الصغار وهو النمائم والغيبة، وحديثاً ثميناً مكلفاً لا ينبغي أن ينثره صاحبه في المجالس إما لدى قوم لا يدركون قيمته أو لا يعطون صاحبه ما يستحقه من مقابل.
وهذه الأنواع لا تصلح لأن تملأ بها المجالس، ولا أن يتحلق الناس عليها، ما يعني أننا ينبغي أن نبحث عن كلام لا يتصف بالصفات السابقة، ويكون مسلياً يجتمع الناس عليه، ويجدون المتعة باستماعه والمشاركة فيه.
غالباً ما تكون هذه الصفات منطبقة على القصص، وهو ما عرفه الدارسون المعاصرون حين اهتموا بالسرد، لكن القصص وحدها لا تكفي، وليست هي موضوع هذا المقال، ولذا فإنني سأتجاوزها للبحث عن حديث آخر يصلح لهذه الوظيفة.
يقال (ولا أعلم مدى دقة هذا القول) إن الإنجليز حينما يرغبون في بداية حديث مع أحد، فإنهم يبدءون بالحديث عن الطقس، ثم يجرون الحديث إلى ما لا حد له. هنا تكمن الفكرة، الحديث عن الطقس في الغالب لا يتصل بأحد، فلا يمكن أن يكون حديثاً سياسياً يورد صاحبه إلى الموارد، فالحكومة أياً كان وضعها لا يمكن أن تكون مسئولة عن انقطاع المطر، أو عن حرارة الشمس، أو شدة البرد، أو كثرة الرياح والزوابع، وليس حديثاً يتصل بالدين أيضاً ولا سواها مما يسمى بـ(التابو) المحرمات.
وعلى هذه الشاكلة ينبغي أن يدور الحديث، فيتناول الأطفال، باعتباره موضوعاً محبباً لدى الجميع أن يتحدثوا عن أطفالهم إما عن نجاحاتهم (إذا لم يكونوا يخشون العين كما في بعض المجتمعات) أو عما يلاقونه من عنت منهم، وهذا جيد لأنه -على أقل تقدير- يطرد العيون الشريرة عن الأولاد، ولأنه الحديث المحبب لدى الآباء، وكأنهم يريدون أن يشعروا بقيمتهم هم، ومسئوليتهم، ومثل الأولاد يمكن أن يكون الحديث عن الأغذية وسعراتها الحرارية، وصلتها بصحة الجسم وأثرها على الأمراض، أو ديكور المنازل أو بعض ما فيه وصب اللعنات على عامل التصليحات أو المدائح -لا يهم- باعتباره لا يؤبه به أو له ولغضبه.
هذه موضوعات عامة يمكن أن يتحدث بها الجميع، وهناك موضوعات خاصة يحب أن يتحدث فيها النساء، وأخرى يتحدث بها الرجال فيما بينهم، وتجذب المستمعين، فالنساء عادة ينجذبن للحديث عن الملابس وتصاميمهن، وعن التجميل وأدواتها، والزينة وأنواعها وأشكالها، ومحلاتها، والرجال يحبون أن تحدثوا عن أعمالهم وعن أسفارهم أيضاً.
وبناء على ما قلناه من أن النساء يحببن أن يتكلمن عن رجالهن، فإن الرجال أيضاً يحبون أن يتكلموا عن النساء، ولكن بوجه العموم وليس عن امرأة خاصة، فهو من الموضوعات التي يتفق الرجال -في الغالب- على محبة الحديث فيه، ويستمتعون به، ولا يجلب الخصومة بينهم خاصة في المجالس التي يكون الحضور فيها خاصاً بالرجال.
يبقى كيف يترتب الحديث، وينتقل من موضوع إلى آخر، فإذا انتهى موضوع معين بناء على أن التناول سيكون سريعاً وسطحياً بحيث لا يمل، ولا يثير حفيظة أحد، فإن الحديث ينتقل إلى موضوع آخر سريع، وهنا تكمن المهارة في تجميع الموضوعات السطحية وصياغتها بلغة تجعلها مقبولة لدى السامعين، ولا تتماس مع حساسيتهم، لأنه عندها قد يكون مبطناً برسائل غير مباشرة للسامعين خارج السياق، فيثير حفائظهم أو يسوق الحديث إلى غير الوجهة المختارة، فبعض الناس لديه حساسية من الحديث عن السن، أو اللون، أو الجهة أو القبيلة أو غيرها مما يتماس مع الجوانب الشخصية للحاضرين.
هناك من يحب أن يستأثر بالحديث، فيطيل القول ويبسطه، ولا يترك مجالاً لأحد أن يتحدث، وقد لاحظت أن التقنية الني يعتمدها هؤلاء هي القدرة على التنقل السريع بين الموضوعات، بحيث لا يثير انتباه المتلقي إلى أن الحديث في الموضوع الأول قد انتهى، فهو ينقله بخفة وبسرعة، حين يتخذ الكلمة الأخيرة أو ما قبلها من حديثه مفتاحاً للموضوع الجديد الذي يريد أن ينقل الحديث إليه، فإذا كان يتكلم مثلاً عن رحلة إلى المنطقة الشرقية، فإنه عند نهاية الكلام عن الرحلة حينما كان في أحد مطاعم الدمام ينقل الحديث مباشرة إلى الحديث عن المطاعم نفسها ويفيض فيها القول وهكذا. وعلى من يرغب في المشاركة الانتباه إلى هذه النقلة السريعة، فيقطعه مستخدماً تقنية أخرى سأتحدث عنها فيما بعد.