عبد العزيز الصقعبي
بعد أن دوّن كل البيانات عني، وحاصرني بمئات الأسئلة التي لم أستطع أن أجيب على أغلبها، قال لي هذه المعلومات مهمة، لأنها تدخل ضمن بحث يحدد مصير آلاف الناس.
أعرف أنه باحث ومجتهد، ولكن أغلب الأسئلة كانت ساذجة وسطحية، لا أدري لماذا يطرحها وبإصرار، بل إنه لم يبتسم أو يبدو محايداً، كانت ملامحه جادة لدرجة أنني توقّعت أنه أمام أمر خطير لا بد أن يُؤخذ بجدية وحزم، بالمقابل أنا كنت أضحك من أعماقي، وأغادر المكان كلما تسنى لي ذلك لأفجر الضحك الذي ضج في داخلي دون أن يصل إليه، وأذهب مباشرة إلى دورة المياه لأغسل وجهي وأمسح دموع عيني المحمرة، وأعود بعد أن أتصنع نوعاً من الجديّة، لأواكبه وأقول عذراً لقد أزعجتني «الحساسية» ليجد تلك الكلمة مدخلاً لمجموعة من الأسئلة، فيبدأ بحصاري بتلك الأسئلة التي ربما تزعجه قبل أن تزعجني، وذلك بسبب أنها قد لا تضيف إلى بحثه شيئاً، ولكن كل ذلك رغبة منه أن يصل إلى شيء يخصني يحتاجه ليكمل البيانات، هو يريد أن يصل إلى مرحلة تعريتي، بالطبع ليس جسدياً بل معرفة من أنا تماماً، يريد أن ينتشل كل ما يستطيعه من بوح، هو ليس بطبيب نفسي وأنا لست مريضاً، هو يعرف اسمي ومكان وزمان ولادتي وبعضاً من سيرتي التي أخبرته بها، لكن هذا لا يكفي، هو يرغب في أن يعرف كيف كنت أفكر وبماذا أفكر، ويتمنى أن أسرد له بعضاً من أحلامي وهل وصل بعضها إلى مرحلة الكوابيس، هل استيقظت فزعاً حينها، لو كنت أتذكر أحلامي الغريبة لدوّنتها وحولتها إلى قصص وحكايات، ولكن بمجرد أن أستيقظ أنسى الحلم مباشرة إلا ما ندر، قلت له هذا ولم يقتنع، ليقول أشك في ذلك ثم ذكرني بكتب تفسير الأحلام والقنوات الفضائية، خفت أن يتذكر قصة يوسف عليه السلام، ولكن لحسن الحظ لم يصل إلى تلك المرحلة، هو يهمه أن أحكي له، أجيب على أسئلته، وأجعله يملأ الفراغات في هاتفه المحمول عبر تطبيق لا أعرفه لينقلها بعد ذلك إلى جهاز حاسبه ليحللها، و يخرج ببحث يخدم المجتمع كما يقول.. أنا أتذكر ذلك وأدون على الورق بقلم رصاص، أدون لأنني أحب أن أرى خط يدي يرتسم على الورقة البيضاء، أنا أحب الحرية لا أريد أن أطوق نفسي بقيود حديثة، ولو كانت تتسم بالسرعة والدقة، أشعر أنني توقفت عند أواخر الثمانينات الميلادية، وهذا ما أذهل الباحث الذي كان يستغرب كيف أعيش مع من حولي، وأنا - كما يرى- بدائي، علاقتي بالحاسب والهاتف المحمول محدودة، لا أعرف وسائل التواصل الحديثة، رجل توقف عن التفاعل مع الجديد منذ قرابة الثلاثين سنة، هذا كان قراري منذ أن شعرت أن سنوات عمري المتبقية محدودة وإن طالت، أخترت مدينة هادئة، وعشت في بيت محفف بأشجار ونباتات تبث في داخلي البهجة، واعتمدت على التواصل مع الآخرين خارج نطاق البيت من خلال البريد المكتوب أو الاتصال عبر الهاتف الثابت غالباً، وأعتقد هذا يكفي، كتبت كثيراً وقرأت أكثر، وشعرت أن حياتي أكثر متعة، لست الوحيد الذي يفضل الابتعاد عن الزمن الحاضر، هناك كثيرون غيري، وهناك من يتمنى أن يبتعد عن قيود التواصل الحديثة، التي تسببت بالقرب الافتراضي والبعد الواقعي، لذا فبكل تأكيد أمثل ظاهرة شبه شاذة لدى ذلك الباحث ليحاصرني بتلك الأسئلة، ولكن ثمة مشكلة، الزمن، فهو عرف الحياة في أواخر التسعينات، وليصبح من جيل الألفية الجديدة، لذا لا يتخيل مطلقاً أن يعيش الإنسان بدون هاتف محمول، كمثال، وأنا ممن واكب كل التغيرات الحضارية والثورات المعلوماتية، وأصبح كثير من الناس في مثل سني يعتمدون كثيراً على ذاكرة تلك الأجهزة، لذا فأنا أضحك أحياناً عن أشياء مسلمات لديه، يرى أنه من المفترض أن تتسع دائرة الأصدقاء الافتراضيين، وأتواصل مع جميع أصدقائي بصورة شبه يومية، حين قلت له ليس ذلك مهماً لدي، أكد أنني لست بكائن اجتماعي، قلت له لدي أقرباء أزورهم ويزوروني، ولدي أصدقاء نلتقي بصفة شبه دورية، ولدي مساحة كبيرة من الهدوء والصفاء، هو يبحث عن سبب لعدم استخدامي الحاسب والهاتف المحمول بإدمان مثل كثير من الناس، ربما لن يعرف السبب، لأنه لا يتخيل أي شخص يعيش بدونها، ولكن أنا ومثلي كثير استطعنا أن نتعايش مع التقنية الحديثة، دون أن نكون عالة عليها، وحقيقة شعرنا بشيء من الراحة والاستقرار وابتعدنا كثيراً عن الصخب.