أ. د.عبد العزيز بن محمد الفيصل
هذا الكيان بناه المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود بقوة الإيمان والثبات على المبادئ، ففتح الرياض اللبنة الأولى في بناء المملكة العربية السعودية، لقد انطلق المؤسس بقوة إيمانه وليس بقوة عتاده، فالرياض التي أصبحت تحت حكم الملك عبدالعزيز جزيرة في بحر خضم متلاطم يحيط بها من كل جانب، فالأتراك في الأحساء يهددون، والأشراف في مكة يناوئون، وآل الرشيد في حائل يحاربون، وأبناء العم غير راضين عن طموح الشاب عبدالعزيز بن عبدالرحمن، والبادية تسرح وتمرح وتنه ب وتكسب، فهي في حريتها ونهب القرى وقطع الطرق غير راضية عن حكم يحد من معيشتها على النهب والسلب.
من أين يبدأ عبدالعزيز؟ هل يكسر شوكة البادية المتسلطة وهم الجزء الأكبر من أداته في الحرب؟ أم يبدأ بضم القرى وهي محصنة بالأسوار، وكل قرية ترى أنها دولة مستقلة، وأميرها يرى أنه ند لعبدالعزيز الذي انتزع إمارة بلده الرياض فعبدالعزيز أمير بلده الرياض وليس من حقه ضم البلدان الأخرى، هذه رؤية أمراء القرى، إذًا استرجاع حكم آل سعود كما كان في زمن جد المؤسس فيصل بن تركي بن عبدالله بن محمد آل سعود يحتاج إلى حكمة ودراية، فالمؤسس منحه الله الحكمة في إدارة البلاد والأناة في اجتياز العقبات، ونلحظ هذه الحكمة في المراوحة بين الهجوم والدفاع في حروبه، فقد بدأ في الهجوم ليوسع إمارته، وليكون قاعدة للدفاع، فالأعداء لن يتركوه، فبدأ بقرى الجنوب وكوّن قاعدة أعانته في صد الهجوم الذي تعرض له، ثم اتجه إلى قرى الشمال، فتوسعت الدائرة حول الرياض، فلما رأت البادية القوة الناشئة رغبت في الانضمام إليها طواعية فمعيشة البادية مبنية على الكسب من الحروب.
مضت عشر سنين كوّن فيها الملك عبدالعزيز قناعات لدى البادية والحاضرة بأن ملكهم قادر على قهر خصومه، وعلى توطيد حكمه، فالثبات ينمو، والخصوم تضعف قواهم، فمنهم من انتصر عليه في معركة فقتل، ومنهم من سلّم نفسه أو بلدته أو قبيلته طواعية. الهيمنة على البلاد في عشر سنين من دون هزائم جائحة أمدت الملك بالاحترام من قبل من دخل في طاعته والخوف من قبل المناوئين له، فالحياة تحت راية الملك عبدالعزيز فيها معاش وأمن، فالسواني في القرى تغدق الماء على النخيل ومزارع القمح، فالتمر متوافر والقمح يملأ الأحواض، وقطعان الماشية ترعى في مراعيها بأمان، فاللبن والأقط والسمن يملأ بيوت الشعر، إذاً المعيشة متاحة، والأمن يتوطد بحذر، نعم يتوطد بحذر فطرق التجارة إلى الأحساء أو الكويت أو العراق ليست تحت سلطة واحدة، فالقافلة تحتاج إلى حراسة، ولكنها تصل في الغالب إلى هدفها، وربما نهبت أو نهب بعضها، أما طرق الحج فليست بعيدة عن طرق التجارة، فالحجاج من نجد يعانون أمرين، الأمر الأول أنهم يجتازون أرضاً تهيمن عليها قبائل من عتيبة، والبادية في ذلك الحين تسترضي الشريف أحياناً وتسترضي ابن سعود أحياناً، وهم يرون أنهم أهل للإتاوة من قافلة الحجاج، أما إذا لم تدفع القافلة الإتاوة فالمعركة هي البديلة، ورجوع القافلة إلى بلدها من دون حج هو المآل، وحادثة حجاج شقراء ليست بعيدة عن الأذهان، الأمر الثاني أنهم ربما وصلوا إلى عشيرة الحجاز بالقرب من مكة فيطلب منهم رجال الشريف إيداع سلاحهم في عشيرة والدخول إلى مكة من دون سلاح فيحدث النزاع بين الحجاج من البادية والحاضرة ورجال الشريف، وربما تطور النزاع إلى القتل فيتعطل الحج.
تنسلخ العشر الأولى لدخول الملك عبدالعزيز الرياض، وتدخل العشر الثانية، وفي هذه العشر أحداث سارة وأحداث تتكافأ فيها الكفتان وأحداث مؤلمة، أما الأحداث السارة فهي دخول الأحساء تحت مظلة الملك عبدالعزيز، وأما التكافؤ فهو في جراب مع إمارة آل الرشيد، وأما الأحداث المؤلمة فهي سنة الرحمة أو سنة السخونة التي عانى منها الملك عبدالعزيز حيث فقد ابنه الأكبر تركي وعانى منها الناس، فالأموات تملأ البيوت في كل قرية، وإمام المسجد لا يخرج من المسجد لكثرة الجنائز، وبما أن البادية يحيطون بأسوار الرياض فقد انتقلت العدوى من بيت شعر إلى آخر حتى أصبح الأموات بالمئات، فأمر الملك عبدالعزيز بنقلهم إلى بنبان. ولذلك نلحظ اليوم في بنبان ما يقرب من عشر مقابر مسورة، أما غير المسورة فهي كثيرة.
لقد كان اجتياز سنة السخونة مؤلماً، فقد أبقى في النفوس جروحاً غائرة بقيت مع الأيام، وهذه المحنة لم تخص الملك وحده ففي كل بيت عويل وويلات على الفقيد ونظرة إلى مستقبل مجهول.
تزحزحت سنة 1336 هجرية وتبعتها سنة 1337 هجرية، فرحل المرض بعد أن أخلى البيوت وأيتم الأطفال وجلب الفقر.
كانت نهاية العشر الثانية نهاية خير للملك عبدالعزيز فقد دخلت عسير تحت راية الملك وتبعتها حائل، وفي بداية العشر الثالثة انضوت الحجاز تحت حكم الملك عبدالعزيز، فأي شرف أسمى من رعاية البيت الحرام في مكة ومسجد رسول الله في المدينة، إنه شرف ما بعده شرف للملك عبدالعزيز، فالدولة السعودية الثانية في عهد الإمام تركي وعهد الإمام فيصل لم تنل الشرف الذي حظي به الملك عبدالعزيز، فالملك عبدالعزيز أعاد انتصارات الدولة السعودية الأولى التي هيمنت على الجزيرة العربية وكست الكعبة من نسج هجر، فالأحساء تحت مظلتها والبيت الحرام تحت رعايتها. ويكتمل عقد أقاليم المملكة بعد انضمام جازان في آخر العشر الثالثة.
ثلاثون سنة من الكفاح وتأليف القلوب وترويض البادية وفتح طرق العيش للحاضرة والبادية، إنها الأناة واتخاذ القرار الصائب وتتابع الخطى إذا سنحت الفرصة، والتوقف برهة عندما تكثر العقبات، هكذا وحّد الملك عبدالعزيز هذه البلاد المترامية الأطراف، وجلب لها الأمن الذي فقدته سنين طويلة، فأصبح المسافر يسير وحده على ناقته مجتازاً الدهناء والصمان، وأصبح الحاج من شرقي الجزيرة ووسطها يجتاز مساكن القبائل التي ألفت المعيشة على نهب الحجاج، فلا تتجرأ على اعتراضه خوفاً من الملك عبدالعزيز ورجاله.
نحن في هذا اليوم نحتفل باليوم الوطني لأنه يوم شرف وعز واستدامة رخاء وأمن وسعة معيشة وتوسع في التعليم، لقد سار أبناء الملك عبدالعزيز: سعود، وفيصل، وخالد، وفهد، وعبدالله، وخادم الحرمين الملك سلمان -رعاه الله وأعانه- على ما يقوم به من أعمال جليلة لمملكتنا الغالية ومن يعيش على أرضها من مواطنين ومقيمين، سار هؤلاء الملوك على سيرة والدهم المؤسس فصانوا البلاد وحموها عن الأعداء وأتاحوا سبل العيش للمواطن السعودي، وفتحوا أبواب المملكة لإخوانهم العرب ليحصلوا على عيشهم من خير هذه البلاد، فالمملكة اليوم تحتضن أربعة ملايين عربي يعيشون مثلما يعيش المواطن السعودي، بل يعيش أكثرهم أفضل مما يعيش المواطن السعودي، ثم إن الإعانات التي يأمر بها الملك سلمان لإخواننا العرب والمسلمين وصلت إليهم في بلادهم، بل إن خير الملك سلمان قد وصل إلى كل صقع في الكرة الأرضية، وشمل العرب والمسلمين وغيرهم.
إن هذه المحنة التي تواجه الملك سلمان من مرض (كورونا) قد واجهت والده قبل مائة عام، ونرجو أن يرحل هذا المرض بأقل الخسائر، وبشائر تضاؤله بدت من يوم لآخر، فالأمل في رحيله أمنية الملك وشعبه، ليكون رحيل هذا المرض موافقاً لليوم الوطني للمملكة العربية السعودية.
أعان الله خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز على خدمة الحرمين الشريفين، وتهيئة المشاعر المقدسة للحجاج والمعتمرين والزائرين، وأعان ولي عهده الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز على تحقيق رؤيته التي يعمل ليل نهار لإنجازها في السنين المحددة لها.