كنتُ قد عثرت قبل يومين على نسخة خطية من رسالة الملك الراحل المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود -طيَّب الله ثراه- الملك الذي لمَّ شعث هذه الجزيرة المترامية الأطراف، المتناحرة على الماء والكلأ، والتي يسودها الخلافات العقديَّة والشرعيَّة والعنصريَّة البغيضة، فوحَّد بقوته كيانها تحت لوائه الخفاق، وقضى بذكائه وحنكته على الخلافات العنصريَّة، ووضع الأحكام الشرعيَّة لسياسة حكمه فأنهى كلَّ ألوان الفساد وصوره، وأمَّن -بعد فضل الله- حدودها الخارجيَّة، وطرقها الداخلية، فأصبح الحاج يسير من شمال الجزيرة ومن شرقها أو جنوبها إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة وهو مطمئن ومستأمن على ماله ونفسه وعياله.
هذه الرسالة الخطيَّة تقع في اثنتين وعشرين صفحة من القطع المتوسط، كتبها -رحمه الله- بعد توحيد هذا الكيان تحت اسم المملكة العربية السعودية، وجاء عنوانها: من عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل فيصل إلى من يراه من إخواننا المسلمين.
في هذه الرسالة المحكمة البيان المانعة القاطعة بالأدلة الشرعيَّة على السياسة الحكميَّة التي سار عليها - رحمه الله - وسار عليها أبناؤه البررة الملوك من بعده حتى هذا العهد الزاهر عهد مولاي وسيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله، وولي عهده صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان نائب مجلس الوزراء وزير الدفاع أيده الله.
هذه الوثيقة الشرعية الدستورية تدور في عدة محاور هي:
المحور الأول: تعظيم القرآن الكريم وتعظيم هذا الدين الإسلامي القويم وتعظيم شأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- والسنة النبويَّة المطهرة.
جاء في مقدمة هذه الرسالة بعد البسملة والثناء على الله بالحمد والشكر، فقال -طيب الله ثراه- الحمد لله الذي أحلَّ الحلالَ وحرَّم الحرامَ، وشرع دين الإسلام، وأمر بالطاعة وزجر عن المعصية، وتوعَّد بالعقوبة على فاعلها ومرتكبها. ثم صلى على النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: ثم الصلاة والسلام على النبي محمد صاحب الحوض المورود، والمقام المحمود المبعوث رحمة للأنام، الداعي إلى الإيمان والهدى والرشاد، الناهي عن المعاصي والآثام وعلى آله وصحبه أهل التقوى والعرفان.
ثم شرع -طيب الله ثراه- في تعظيم هذه الشؤون الشرعية الثلاث على النحو التالي:
أولاً: تعظيم القرآن الكريم بحفظه وتعلمه والعمل به، فقال -طيب الله ثراه- القرآن الكريم هو أحسن الكتب نظامًا، وأفصحها كلامًا، وأوضحها أحكامًا، هو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وهو الذي يهدي للتي هي أقوم.
ثانيًا: تعظيم أمر الدين الإسلامي القويم، قال -رحمه الله- هو أكمل الأديان وأشرفها.
ثالثًا: تعظيم شأن الرسول صلى الله عليه وسلم في نفسه ونفوس المسلمين بقوله -طيب الله ثراه- أيها المسلمون لقد أكرمكم الله بنبي قال عز وجل واصفًا له في كلامه المجيد: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (128) سورة التوبة، وقال عليه الصلاة والسلام: (بعثت لأتمِّمَ مكارم الأخلاق)، ثم بيَّن - رحمه الله- أنَّ النبي - عليه الصلاة والسلام - مؤيد بالوحي، وأنَّ هديه خير الهدي، كما أكد - رحمه الله - في رسالته على قدسيَّة ومكانة هذه الشؤون الثلاث بقوله: (فلو عملتم بما في كتاب الله العظيم، وتمسكتم بالدين القويم، وأحسنتم متابعة هذا النبي الكريم لكنتم متحلين بالفضائل الجليلة، متخلين عن كل وصمةٍ ورذيلةٍ؛ ولأضحت الأمم لما أنتم متصفون به عاشقة، وإلى دخول دينكم متسابقة، ولكنَّ أكثركم مَنْ عليه اسم الإسلام، وهو لا يفرق بين حلال ولا حرام بل أفعاله تشمئز منها عبدة الأصنام كالخيانة في الأمانة، وما فحش من اللعن والسبِّ والجرأة على الدماء لطمع حقير أو تولي الغضب بسبب جرم صغير) انتهى.
أقول معلِّقًا: رحمك الله أيها الملك العادل، والمؤسس الباني، لقد وضعت -رحمك الله -يدك على الجرح الذي اكتوى به الإسلام منذ نشأته بالمنافقين والأفاكين والخونة الذين تحلَّوا بالإسلام شكلاً وصورة، واكتوت به هذه البلاد المباركة من بعض المسؤولين المتسلقين الفاسدين دينيًّا وعلميًّا الذين خانوا الأمانة فنهبوا ثرواتها وخيراتها رغم العهود، وتجرأوا على الدماء المعصومة فقتلوا وفجروا رغم المواثيق الشرعية، فشوهوا صورة البلاد والعباد.
لكنني أبشرك يا جلالة الملك، فقد جاء من بعد عهد الحزم والعزم عهد مولاي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان حفظه الله الذي قال: (لا مكان للفساد والمفسدين في هذه البلاد)، ومن وحي هذه الوثيقة الخطيَّة وُلِدَ حفيدك ونظيرك هذا الشاب الشهم صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد حفظه الله (سيف النزاهة) الذي قطع دابر الإرهاب والإرهابيين، وأرغم أنوف الفاسدين والمفسدين ووضع استراتيجية القضاء على الفساد واجتثاث شأفتهم حتى أصبحوا أحاديث، وقد قال - حفظه الله-: (لن ينجوَ أي شخصٍ دخل في قضية فساد سواء أكان وزيرًا أو أميرًا).
المحور الثاني من محاور هذه الوثيقة الخطية لجلالة الملك الراحل الموسس طيب الله ثراه، مجموعة من الوصايا، وهي على النحو التالي:
الوصية الأولى: التقوى، وهي امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه.
الوصية الثانية: التأكيد بناء هذا الدين القويم على أصول التوحيد وإخلاص العبادة لله رب العالمين.
الوصية الثالثة: الحث على العلم والتعليم والتعلم، قال -رحمه الله - ونأمركم بتعليم ما كُلفتم به من أمر دينكم والمبادرة إلى محالِّ العلم، وحمل أولادكم على التعلم.
الوصية الرابعة: التوادد والتعاطف بين أفراد المجتمع؛ لأنها كما قال -رحمه الله- الجامعة لإخوة الإسلام.
الوصية الخامسة: صلة القرابة والأرحام، وإكرام الجار والضيف.
الوصية السادسة: ستر عورات المسلمين وعدم تتبع عثراتهم.
الوصية السابعة: العفو عن المسيء، وإيصال الخير للناس.
الوصية الثامنة: إغاثة الملهوف وإعانة المحتاج.
الوصية التاسعة: الرفق بما تحت أيديكم من الأهل والخدم والدواب.
ثم يعلق -رحمه الله - فيقول: (فإنَّكم متى تفعلوا ذلك يثبت التحابب والتواد بينكم والوئام، وفي الأثر لولا الوئام لهلك الأنام، فاحملوا أنفسكم على هذه الأخلاق الجميلة ترشدوا، والزموها بهذه الأوصاف الجليلة تسعدوا).
المحور الثالث من محاور الرسالة المنهيات التي وجه - رحمه الله- في اجتنابها، وهي كما يلي:
الأول: التحذير من الشرك وتعاطي أسبابه، واستشهد بقوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} (48) سورة النساء، وقال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (13) سورة لقمان، فهو الذنب الذي لا يغفر، ولا ينفع العبد معه عمل في الآخرة ولو استكثر.
الثاني: التحذير من الجناية على نفس المؤمن، ويعني بذلك القتل - عفانا الله وإياكم من شره-، واستشهد بقوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} (93) سورة النساء.
الثالث: التحذير من الزنا - كفانا الله وإياكم منه- واستشهد -رحمه الله - بقول الله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} (32) سورة الإسراء..
الرابع: النهي عن شرب الخمر ولعب القمار والاستقسام بالأزلام، واستشهد -رحمه الله- بقوله عليه الصلاة والسلام: (من شرب الخمر ولم يتب حُرمها في الآخرة).
الخامس: التحذير من السحر وإتيان الكهنة وأهل الشعوذة والمنجمين، واستشهد بقول النبي - صلى الله عليه وسلم-: (من أتى كاهنًا فصدقه فقد كفر بما أُنزل على محمد).
السادس: التحذير من شهادة الزور والكذب والأيمان الفاجرة، واستشهد بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} (72) سورة الفرقان.
السابع: النهي عن الذبح لغير الله وعن عمل قوم لوط وتغيير منار الأرض أي حدودها ومعالمها، وعقوق الوالدين.
الثامن: النهي عن مخالطة النساء ولا سيما الأجنبية، واستشهد بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلونَّ بامرأة ليس بينه وبينها مَحْرَم).
التاسع: نهي النساء عن التبرج وإظهار الزينة للرجال غير المحارم، وعن التكشف وعدم المبالاة بمن يراهن.
العاشر: النهي عن استعمال الملاهي؛ فإنها مزامير الشيطان.
الحادي عشر: النهي عن التنابز بالألقاب وعن لعن المسلم، وعن القذف، وعن الربا، وعن الغش، وعن التطفيف في المكيال والميزان.
الثاني عشر: النهي عن الغِيبة والنميمة وإفساد ذات البين، وعن تتبع عورات المسلمين.
ثم يقول -طيب الله ثراه- معلقًا على هذه المنهيات: (فهذه جملة من المنهيات يجب على كلِّ مكلف التخلي منها والبعد عنها.
أقول: هذه هي سياسة حكمه -رحمه الله- المستمدة من القرآن والسنة، وهي سياسة حكم الإسلام، وعليه قامت هذه البلاد المباركة.
ويقول -رحمه الله- مؤكدًا على هذه السياسة الشرعية المرعية: (وإنَّا بعون الله تعالى وتوفيقه سنعمل فيكم - إن شاء الله - بأمره أداءً لواجب شكره، ورجاءً أن ندخل في الذين وصفهم الله تعالى بقوله في محكم ذكره: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (40) سورة الحـج، أي ينصر دينه {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (41) سورة الحج، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تزال لا إله إلا الله تنفع أهلها وتدفع عنهم البلاء ما لم يستخفوا بحقِّها، قالوا: وما الاستخفاف بحقِّها يا رسول الله، قال: يظهر فيكم العمل بمعاصي الله فلا تغيرون ولا تنكرون) ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم يختم - رحمه الله - رسالته بقوله: قد قدمنا النصيحة إليكم لتكون معذرة لديكم، فمن استغفر وتاب فليس دونه ودون رحمة الله حجاب، ومن أصر على ذنبه فسوف نجري فيه أمر ربه إمَّا بإقامة الحدِّ فيما فيه الحد أو بالتعزير الذي يكون رادعًا له ولأمثاله، وفي هذا القدر كفاية وبالله التوفيق.
ثم يختم - طيب الله ثراه- بالحمد والثناء على الله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..
أقول: هذه هي السياسة الحكمية الشرعية الإسلامية التي قامت عليها هذه البلاد المباركة لخصها في صفحات قليلة، وفي أسطر موجزة، وكلمات رصينة بليغة أدت المقام.
وهذه بعض الظواهر اللغويَّة في هذه الرسالة القصيرة الموجزة بلاغيَّا:
1 - الإيجاز اللغوي والبلاغي، فقد تميزت الرسالة بدقة ألفاظها الموجزة الموحية المؤديَّة للمعني.
2 - السجع، وهو من الأساليب البلاغية العربية التي نهجها الكتاب والمبدعون، وقد طفقت الرسالة بهذه الظاهرة الجميلة والممتعة في إيصال المفاهيم والأفكار.
3 - الاستشهاد، وقد أكثر - رحمه الله - من الشواهد القرآنية والأحاديث النبويَّة الشريفة لتقوية التوجيهات أو التحذير من المنهيات.
4 - المقابلة، وهو أسلوب بلاغي يستخدم لإيضاح المعنى المراد، وقد حفلت الرسالة بهذا اللون البلاغي الممتع.
5 - التكرار، وهو أسلوب لغوي تميزت به الرسالة للتأكيد على الأمر، فتكراره يعني أهميته.
6 - الألفاظ اللغوية الفصيحة.
أخيرًا .. أرجو أن يكون القارئ قد استمتع بهذه القراءة لهذه الرسالة، وأسأل الله أن يعينني على طباعتها تخليدًا لها في نفوس الأجيال.
** **
د. خالد بن قاسم الجريان - أستاذ فلسفة اللغة العربية وآدابها بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن بالظهران