د.فارس بن متعب المشرافي
الإعلام التاريخي (Historical media):
خلق التطور التكنولوجي السريع في السنوات الأخيرة وعيًا متزايدًا بأهمية وتأثير وسائل الإعلام المختلفة في المجتمع المعاصر. لكن في الواقع، يدرس تاريخ الإعلام على أنه يكشف التطور والتحولات التي مر بها الإعلام من أقدم العصور حتى العصر الرقمي المعاصر, وهو بذلك يكشف الثقافة البشرية في التواصل والتأثير منذ الوجود البشري. في أقسام الإعلام يدرسون تواريخ وسائل الإعلام, من المنحوتات الصخرية والترانيم الشفوية والعملات المعدنية كمصادر إعلام, إلى الوسائل الحديثة كالراديو والتلفزيون والصحف والتصوير والسينما وتويتر وغيرها. ولكن هنا أنا أتحدث عن الإعلام التاريخي, بمعنى كيف يكون للتاريخ, كتخصص, فلسفة إعلامية لها تأثيرها الخاص بين وسائل الإعلام الأخرى, وكيف يكون من ضمن التخصصات التي تلعب دورًا في تطوير القوة الإعلامية, وبالتالي تطوير مناهج أقسام التاريخ وخلق فرص عمل لخرجيه.
قبل كل شيء لابد لنا أن نؤمن بأن العلاقة بين التاريخ والإعلام هي علاقة تبادلية مهمة, فالتاريخ مطلوب لفهم التطور التاريخي لوسائل الإعلام وتأثيراتها عبر العصور بالنسبة للإعلامي, وفي الوقت نفسه المعرفة حول وسائل الإعلام وتأثيراتها السياسية والثقافية والاقتصادية مهمة جدًا بالنسبة للمؤرخ لتفسير التاريخ وإحداثه.
وإذا أردنا أن نتحدث عن أهمية الإعلام للتاريخ, فإننا سندرك بأن الرسم (النقوش) كوسيلة إعلامية كانت من أوائل الوسائل التي نقلت لنا التاريخ. وبالرغم من اختراع الكتابة فيما بعد ودورها في تدوين التاريخ, إلا أن هذا لم يلغ دور الفنون البصرية التي لعبته بشكل واضح في قراءة التاريخ. بعد ذلك, نقل اختراع الكاميرا في القرن التاسع عشر المصادر البصرية إلى مرحلة أخرى متطورة, فقد عرضت الكاميرا الأشياء والأشخاص كما كانوا. لقد تجاوزت الكاميرا انطباع الفنان, فأصبحت صور الكاميرا الفوتوغرافية متميزة عن الصور التي رسمتها يد الفنان, فسرعان ما بدأت البصريات تفرض أصالتها. والحقيقة أن دور التصوير الفوتوغرافي بدأ يتزايد في تشكيل التاريخ العام بعد الجمع بين الصور والنصوص المكتوبة وأصبحت أداة قوية للتأثير على الرأي العام وبالتالي على الكتابة التاريخية.
ولكن الثورة الحقيقية في عالم التصوير حدثت في أوائل القرن العشرين بعد اكتشاف الكاميرا المرئية المتحركة (الفيديو) التصوير السينمائي على يد توماس إديسون, فبدأ عصر التدوين المرئي في عرض التاريخ كما يجب أن يكون, حيث تم تصوير الأحداث التاريخية, كالحروب, مثلاً, من قبل الجنود والإعلاميين المحترفين. وهذا أحدث تطوراً هائلاً في تصوير التاريخ على المستوى الدارمي والوثائقي. فالأفلام الوثائقية هي نوع من الأفلام التي تعتمد فيه القصص على الأحداث التاريخية والشخصيات الشهيرة التي تحاول أن تقدم تصويرًا دقيقًا لحدث تاريخي أو سيرة ذاتية. والدراما التاريخية هي عبارة عن حكايات خيالية مبنية على أشخاص حقيقيين وأفعالهم, مثل فيلم Braveheart الذي يجسد شخصية المقاتل الاسكتلندي ويليم والس وكفاحه ضد الحكم الإنجليزي في اسكتلندا في القرن الثالث عشر. وكذلك فيلم عمر المختار الذي يصور المقاومة الليبية بقيادة المجاهد عمر المختار ضد الاحتلال الإيطالي في أوائل القرن العشرين.
وبالرغم من وضوح مساهمة التصوير سواء الفوتوغرافي أو السينمائي في نقل التاريخ, إلا أن هناك شريحة واسعة من المؤرخين الذين يعارضون بأن تكون الأفلام الوثائقية والدراما التاريخية مصدرًا من مصادر كتابة التاريخ, كونها تشمل الخيال الدرامي ولا تتضمن الأسس الأكاديمية.
في المقابل, هناك مؤرخون لا يتفقون مع هذا الموقف, بل يرون توظيف هذه التقنية في خدمة التاريخ أمر إيجابي, وعلى عكس وجهة النظر التقليدية, يرون أن الخيال عامل إيجابي وحيوي في تصوير التاريخ. يقول المؤرخ الهندي Anirudh Deshpande, بسبب أن التاريخ نفسه أثبت أنه نظام ديناميكي, فإن الوقت حان لفحص مناهج المؤرخين للسينما بشكل عام والفيلم التاريخي بشكل خاص, فإن مشاهدة الأفلام مع التركيز على الجاذبية يجب أن تفسح المجال لفهم دقيق للإمكانات التاريخية للسينما. ويجادل المؤرخ الفرنسي Pierre Sorlin أن الأفلام مثلها مثل بقية المصادر التاريخية الأخرى, فيمكننا وصف المعرفة التاريخية الأساسية لمجتمع ما, فكل فيلم تاريخي هو مؤشر لثقافة بلد ما. يقول Deshpande إن ما ينطبق على التاريخ المكتوب والشفوي, يجب أن ينطبق على السينما والأفلام كمصدر من مصادر التاريخ. فإذا كانت السينما تسجل التاريخ من خلال مصفاة الكاميرا، فإن التاريخ المكتوب تغلغل أيضًا إلى القراء من خلال مصفاة المؤرخ وتفسيراته وخيالاته, وكما صنف المؤرخون التاريخ الشفوي يجب عليهم تصنيف السينما التاريخية إلى فئة مفيدة وأقل فائدة وعديمة الفائدة.
الباحثة في الأفلام والسينما التاريخية, Sain Barber, ترى أن الفيلم التاريخي ربما لا يؤدي الغرض الأكاديمي الذي يؤديه التاريخ المكتوب على أسس أكاديمية, ولكن حتمًا أن الفيلم التاريخي يكون أكثر فاعلية يجعل قصص الماضي وإعادة تمثيله للترفيه, فإنه يتم تقديمه عادة في ضوء الأكثر جاذبية. هنا تركز وجهة النظر المؤيدة لاستخدام السينما لتوثيق التاريخ على إمكانية الكاميرا في النقل التي ربما لا تتوفر في التاريخ المكتوب, كالمناظر الطبيعية والمشاعر.
في الحقيقة يعرض الفيلم تفاصيل تاريخية مهمة تتعلق بجوانب مختلفة من التاريخ الاجتماعي أو الحضري أو الريفي, الأشجار والطرق والجسور والمعالم والشوارع والعمارة الموجودة ووسائل النقل والملابس التي يرتديها الناس, والتعبيرات على وجوه الناس، وما إلى ذلك من التفاصيل التي ربما يعجز عن نقلها التاريخ المكتوب. يقول Deshpande يميل التصوير في الهواء الطلق إلى دمج معلومات عرضية قيّمة حول التضاريس والبنية التحتية، وبمجرد التأكد من أصالتها, فإنه من الإمكان استخدامها كمادة قيمة لعرض لتاريخ.
في هذا السياق يقدم المؤرخ الأمريكي Hayden White فكرة «الفهم المنهجي» أي تمثيل التاريخ وفكرنا عنه في الصور المرئية والخطاب السينمائي. يطرح White أسئلة عدة لدعم فكرته, هل يمكننا التفكير في التاريخ, وخاصة التاريخ الحديث, دون الرجوع إلى التمثيل البصري؟ ماذا سيكون تاريخ الحروب والصراعات الحديثة بدون صور الفظائع التي ارتكبها الغزاة في بولندا وروسيا والصين وفيتنام وتيمور وإفريقيا، ومؤخرًا العراق؟. وبهذا ربما تعتمد صلاحية الفيلم السينمائي كمصدر تاريخي, بديل للتاريخ المكتوب, على تقديم إجابات على هذه الأسئلة. ولذلك يقول Deshpande «إن هناك مناطق تظهر منها الصور والأفلام، كشهادات واقعية بليغة، ولكن لا يظهر في الوثائق لأسباب عدة».
المشاعر من الأشياء التي لا يقدمها التاريخ المكتوب بما فيه الكفاية, كالحب والإذلال والكراهية, الغضب والعجز والقمع, وحتى الاحتجاج, يتم تناولها بشكل غير كافٍ في معظم التاريخ المكتوب. هذه المشاعر، بالرغم أنها موجودة في سياقات تاريخية مفسرة من قبل التاريخ المكتوب, إلا أنه يمكن للتاريخ البصري والمرئي أن يقدمها بشكل أفضل وأدق.
يبدو من هذا العرض الموجز, إننا بحاجة إلى تفعيل أقسام التاريخ بالإعلام وخاصة صناعة الأفلام الوثائقية films documentary الدراما التاريخية docudramas على أسس منهجية تاريخية. وهذا ربما يكون بالإمكان, حيث أكد المؤرخ الأمريكي Robert Rosenstone بأن الفيلم سواء دراميًا أو وثائقيًا يستمد شعبيته من المعايير التي يشاركها مع التاريخ المكتوب, فالفيلم عبارة عن نافذة من خلالها يرى المشاهد (viewer) الماضي, وهو وسيلة بالغة التأثير على الجمهور الذي أصبح يفضل المشاهدة على القراءة, وهو ما سماه Rosenstone بعالم ما بعد القراءة post-literate world.
بناءً على ما سبق, يمكن أن نقول إن الفيلم التاريخي (الوثائقي, السينمائي, الدرامي) لاعب مؤثر في تحقيق بعض أهداف رؤية 2030, حيث يلعب دورًا مهماً في ترسيخ الجذور الحضارية والثقافية والدينية في أذهان ونفوس أفراد المجتمع السعودي, وسيسهم في بناء شخصيات أبناء هذا الوطن كونه - الفيلم التاريخ - من أهم مصادر المنظومة التعليمية والتربوية. ولا يقتصر الفيلم التاريخي على أنه مصدر تعلمي وتربوي ملهم, بل إنه كذلك مصدر من مصادر الترفيه التي تسعى الرؤية إلى التوسع في هذا الجانب لما له من عوائد اقتصادية واجتماعية وثقافية.
في هذا التوجه, أعتقد أننا بحاجة إلى مؤرخين صانعي أفلام وثائقية ودراما تاريخية. أعتقد كذلك أن هذا سيسهم في إخراج أقسام التاريخ من جمودها لتنطلق إلى فضاء الإعلام لبناء جسور تواصل مع المجتمع, وهذا ربما سيخلق ليس فقط فرص عمل كبيرة لخريجي أقسام التاريخ في عالم التوثيق المرئي والبصري, بل سيكون مصدرًا ربحيًا وأكاديميًا للجامعة في صناعة الأفلام.
** **
رئيس قسم التاريخ - جامعة الملك سعود