محمد آل الشيخ
بدءاً يجب أن نعترف أننا قبل عقد أو يزيد قليلاً كنا لا نكترث كثيراً بمفهوم الوطن؛ السبب أن زمن الصحوة القميئة، التي كنا حينها نعيش في مفاهيمها، ويسيطر على ثقافتنا أساطينها، يتعمدون أن يرسخوا في ذهن الإنسان السعودي مفهوم (الأمة) بدلاً من مفهوم الوطن، فالوطن في أدبياتهم لم يكن سوى (قُطرٍ) مؤقت، سينتهي ويتلاشى ويذوب في كيان الأمة التي يتوهمون قدرتهم على إحيائها، لذلك نجدهم يعتبرون أن (الوطنية وثنية)، وأن (الوطن ليس سوى حفنة من تراب) كما يقول منظرهم الهالك سيد قطب.
كما يجب أن نعترف أيضاً أن الوطن مفهوم جديد على الثقافة العربية والإسلامية، تشكل بتشكل الدولة الحديثة التي هي كيان جغرافي له حدود معينة، ويسكن فيه شعب، وله سيادة وقيادة تبسط سلطتها على هذه الحدود الجغرافية، ويتسمى من يعيشون على أرضها باسم محدد، ينتمي له كل من يحملون جنسيتها، ولهم حقوق كما أن لهم واجبات، يأتي على رأس هذه الواجبات، الدفاع عن هذه الحدود، وبذل الأرواح للذود عنها، وهذا الوطن هو لجميع مواطنيه بمختلف أعراقهم وتوجهاتهم المذهبية، وهم بهذا المفهوم متساوون في الحقوق كأسنان المشط. ومثل هذا التعريف بهذه المفاهيم هو ما تعارف عليه الناس في العصر الحديث بالوطن، وأبرمت على أساسه المواثيق والمعاهدات، حتى أصبح (الوطن) كمفهوم ليس في مقدورك أن تتجاوزه، أو أن تنأى بنفسك عنه، شئت أم أبيت؛ بمعنى أن أرباب الإسلام السياسي ليس في أيديهم أن يرفضوه، فهو في حياة إنسان اليوم بمثابة القواعد الآمرة في التعاقدات التي لا يجوز تجاوزها بحال. ومثل هذه المفاهيم التي هي بمثابة الثوابت هي ما يحاول أرباب التأسلم السياسي تجاوزها، بل ويسعون إلى نسفها، بحجة أنها -كما يزعمون- لا تتفق مع مفهوم الدول الإسلامية في الماضي.
ولأن ما تُسمى بالصحوة المتأسلمة سيطرت على ثقافة بلادنا لأربعة عقود خلت فقد حدث في مفاهيم الانتماء الوطني خلل انعكس على ارتباط الإنسان بالأرض، بالشكل والمضمون الذي جعله يحتاج إلى تصحيحه ونشره وتكريسه، وعدم الاكتراث بمن يرونه ضرباً من ضروب البدع الذي لا يتواكب مع مفهوم الدين الحنيف.
الوطن هو الأول في معادلة الانتماء، ثم تأتي (الأمة، كدرجة ثانية، لا يجب أن تتقدم عليه كمفهوم مهما كانت التبريرات، وكل من يقول بالعكس، أي أن مفهوم الأمة يحب أن يكون له الأولوية على مفهوم الوطن، فهو بالضرورة بمثابة المتمرد الخائن لوطنه.
وأنا إذ أرفض تقديم مصلحة الأمة الإسلامية على مصالح الوطن عند التعارض، فإنني أيضاً أرفض تقديم مفهوم الأمة العربية على مصالح الوطن، الذي يسمونه تقزيماً له مجرد (قُطر)، أو جزء من (الوطن العربي الكبير)؛ فالوطن كيان نهائي لا يمكن أن نقبل بتجزئته أو التعدي عليه، كما نقاتل ونبذل الغالي والرخيص للذود عنه، لذلك فإن القول بأن هناك (وطناً عربياً كبيراً) غير وطننا الحالي الذي نحيا على أرضه هو ضرب من ضروب التفريط بالوطن. نعم أقبل أن أنتمي لأمة عربية أو إسلامية، ولكن هذا الانتماء متى ما تحول إلى (وطن عربي) فهو مرفوض رفضاً مطلقاً، بكل ما يحمله مفهوم (الإطلاق) من معاني.
ولم تعرف بلادنا مفهوم الوطن بمعناه المعاصر قبل أن يوحدها المؤسس العظيم الملك عبدالعزيز -رحمه الله-، فهو أول من أسسها كوطن واحد باسم (المملكة العربية السعودية)، وأصبح من يقيمون عليه، وينتمون إليه، مواطنين لا رعايا، ولهم حقوق مثلما عليهم واجبات، مثلهم مثل شعوب العالم المعاصر، كما عمل على استتباب الأمن، والتعايش بين هؤلاء المواطنين، وكرس الانتماء لهذا الكيان وكان الانتماء الأول قبل هذا التأسيس يعود إما إلى البلدة للمكون الحضري، وللقبيلة للمكون البدوي، فاستبدل الانتماء إلى الوطن حاضرة وقبائل، ومع الزمن أصبح الانتماء إلى الوطن قبل الانتماء إلى المكون العرقي أو المذهبي لتلك القبائل والأعراق. وإذا كان الأمن والاستقرار وتلبية حاجات الإنسان المعيشية من أهم عوامل اللحمة الوطنية في المجتمعات الحديثة، فإن ما نعيشه من لحمة وأمن وأمان ورخاء معيشي يعود فضله الأول لذلك الرجل العظيم، الذي حقق هذا الكيان الشامخ وحافظ عليه أبناؤه من بعده، وهو في تقديري الزعيم الذي أعاد للجزيرة العربية مكانتها وقوتها ومنعتها، وقد كانت قبله نسياً منسياً.
إننا إذ نحتفل اليوم بالذكرى التسعين للتأسيس فإننا نحتفل برجل يسمى عبدالعزيز بن عبدالرحمن، رجل لا يجود به التاريخ إلا لماما.
إلى اللقاء