د. محمد عبدالله الخازم
دأب بعض المبتعثين على تسجيل تجاربهم وصعوباتهم في الابتعاث، لكن علي العقيلي ذهب منحى آخر؛ فكتب انطباعات عن المجتمع الأمريكي بلغة سلسة، تجنح للسخرية أحيانًا، وللمقارنة أحيانًا بمجتمعاتنا الشرقية. وزاد من قيمة ملاحظاته إسنادها بالشواهد والهوامش المختلفة، حتى غدت مبحثًا اجتماعيًّا؛ يستحق القراءة، رغم أنه يرفض تسميته بأكثر من خواطر وانطباعات.
«مع الأماركة» لمؤلفه علي العقيلي كتاب لطيف في موضوعاته، سلس في حكاياته. يقر المؤلف بأن مقارباته وملاحظاته تعبّر عن وجهة نظره حين كتابتها؛ لأنه لا يوجد أمريكا القطعية؛ «ففي أمريكا ألف أمريكا، ولها ألف وجه، وللأماركة تنوعهم المتنافر أحيانًا في العادات والتصرفات وأنماط العيش».
الفرق بين الباحث والمفكر - كما يشير محمد زايد الألمعي -: «الباحث ذاكرته في المراجع، ولديه أدوات منهجية - كما يرى - لترتيب مختاراته. أما المفكر فأرشيفه في ذاكرته، يعالجه، ويعيد ترتيبه بالمنهج الذي اقترحه لنفسه...».
علي العقيلي هنا يمثل المفكر، وليس المتخصص والباحث في المعلوماتية، وتخصصه العلمي. خلفيته الثقافية والشعرية أسهمت في تحليقه السردي ما بين الجد والهزل، وما بين الحكمة والقصة العابرة، والحكواتي الذي يسند الآراء لنفسه، أو يستعير شخوصًا يعبّر من خلالهم عن الآراء.
رغم تكرار السفر والإقامة في أمريكا، والادعاء بأنني أفهم بعض صفات المجتمع الأمريكي، أدهشني كتاب «مع الأماركة» في تأملاته للمجتمع الأمريكي.. ولفت انتباهي إلى زوايا مختلفة، لم تكن واردة في ذهني؛ لذا أنصح بقراءته حتى لمن قضى في أمريكا دهرًا؛ حتمًا سيجد فيه زوايا رؤية مختلفة، قد يتفق وقد يختلف معها.
والكاتب يشير صراحة إلى أنه رغم كتابه هذا لا يزال لا يفهم الأماركة حتى الآن.
بين كل فصل وآخر دُوّن مقطع شعري للكاتب، وكأن قصيدة الإهداء في أول الكتاب ليست كافية، إضافة إلى مقولات مشهورة، تتصدر فصول الكتاب.
فصول الكتاب لم تُكتب في وقت واحد، وفي بعضها اتضح حرص المؤلف على البُعد عن مناطق توصيف أعمق في مجالها السياسي أو الأيديولوجي والاجتماعي. وهذا لا يخل بجودة الطرح وسياقه.
الكتاب حوى 12 فصلاً ومقدمة، إضافة إلى فصل تلخيص، وهي فكرة غير معتادة بوضع فصل أخير كملخص للكتاب.
كانت الفصول عن أمريكا التاريخ، المستقبل، الآمش، الفردانية، الدراسة، النساء، الصداقة، الكلاب، الملونة، القانون، الجامحة والسفر. هذا التقسيم يتيح للقارئ اختيار الفصل الذي يناسبه لقراءته.
رغم أنها التجربة الأولى فالكاتب أبدع في الوصف والتقاط الزوايا؛ وهو ما يؤهله لكتابة حكاية مطولة مستقبلاً، وليس مجرد انطباعات في شكل مقالات.
أثبت العقيلي هنا فكرة إجادة المتخصصين في الأمور العلمية والهندسية الكتابة السردية والأدبية. كما أكد أن المبدع حينما يقرر أن يكتب سيجد الوقت المستقطع من واجباته ومسؤولياته المهنية والدراسية والاجتماعية لفعل ذلك؛ بدليل صدور «مع الأماركة» ومؤلفه لا يزال يعمل على إنهاء رسالة الدكتوراه. لعل «الأماركة» علموه أهمية الوقت وتنظيمه رغم شكواه من أن الدراسة الجامعية في أمريكا «أقسى ما فيها تفلُّت الأيام، وكأنها سناجب شاردة، تطاردها الكلاب باتجاه غابة مفتوحة»، وشعوره كطالب جامعي بأنه «يركض طوال اليوم، وأن الساعة تسع وخمسون دقيقة للركض، ودقيقة واحدة فقط لشد رباط الحذاء».