عبد الرحمن بن محمد السدحان
- كنتُ وما برحتُ (متيّمًا) بحب سيدتي الوالدة -رحمها الله-، حضوراً وذكرى، وشاء القدر أن ألقاها صدفة في مدينة الطائف قبل نحو خمسين عامًا تقريبًا. وكان جسدي قد نحل حزنًا على فراقها قبل بضعة أشهر حين شددت الرحال إلى مدينة الطائف! ثم جاءت إلى الطائف مع زوجها العم ناصر الكودري -رحمهما الله- مرورًا في طريقهما إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج ذلك العام على متن سيارة بريد عافت الطريق وعافها الزمان والزحف على التراب!
* * *
- كنتُ آنئذ أقيم في منزل سيدي الوالد وسط (برحة القزاز) وكان لقائي الخرافي بسيدتي الوالدة من عجائب الصدف وأنداها في قلبي، وكان سيدي الوالد -رحمه الله- قد قرر في وقت مبكر من ذلك الشهر الرحيلَ حاجًا إلى مكة المكرمة، أما أنا فقد بقيتُ في المنزل المستأجر أتقاسم العيشَ فيه مع (جارية بلوشية عجوز) طيبةِ القلب، لكنها مشوّهة اللسان، فلم أفهم لها نطقًا ولا تعبيرًا!
* * *
- اعتدتُ أن أنفقَ جزْءًا من الفراغ في الشارع المقابل لـ(منزلنا) المتواضع، فألهُو مع بعض صبية «الحارة» مِمّنْ يماثلونني سنًا وإدراكًا، أو أتحدث مع (كُتّاب) العرائض الذين كانوا يفترشون الفراغ المجاور لمكتب البريد.
* * *
- وذات يوم من شهر ذي الحجة من عام 1370هـ فيما أظن، عدتُ إلى السكن قبيل غروب الشمس، وإذا بسيارة شحنٍ تقف بجوار مدخل المنزل، وقادني الفضولُ إلى الاقتراب من السيارة استطلاعًا لشأنها، وكأنّما ألهمني وحيٌ من السماء أن أفعل ذَلك! ثم ازداد اقترابي من مقدمة السيارة مسيَّرًا بالفضول، لأستمعَ إلى رجل يتحدث إلى سائقها، فأيقظ صوتُه حنينَ الذكرى في خاطري، لأن الرجل لم يكن سوى (العم معبّر)، صديق زوج والدتي -رحمهما الله- ولم أستطع أن أكتمَ دهشتي وفرحي بعد أن تأكّدت من هويته، وصحْتُ بصوت مسموع: (عم معبّر) ولم أزدْ! والتفت إليّ الرجل مذهولاً قبل أن يصرخَ قائلاً: (عبدالرحمن)!
* * *
- اقترب الرجلُ منِّي وطوقني بذراعيْه، وسألني، وقد عقدت الدهشةُ لسانَه ما الذي جاء بك إلى هنا؟! وجاء ردِّي فورًا: أعيش في هذا البيت مع سيدي الوالد. ثم أبلغني أن سيدتي الوالدة في تلك السيارة. جاءت مع بعض ذوي القربى في طريقها إلى مكة المكرمة لأداء فريضة حج ذلك العام!
* * *
- هنا ازْداد ذهُولي، تزامنًا مع دقَّات قلبي فرحًا بنبأ وجود والدتي على متن تلك السيارة، ثم سرتُ معه خطواتٍ إلى حيث كانت (ست الحبايب) تجلس وسط السيارة، ولم تكد تراني ألْثمُ يدَها وجبينَها حتى شهقت بالبكاء، وهي لا تكاد تصدق أن الطفل الجاثي بين يَديْها ليس سوى ابنها عبدالرحمن الذي رحل عنها قبل بضعة أشهر في رحلة إلى الطائف على متن سيارة بريد متهالكة بحثًا عن والده في تلك المدينة. ولتلك الرحلة قصّة تستحق أن تُروى، وسأورد هنا جزًا منها. فقد كانت السيارة تربض في موقف عام وسط سوق أبها المعروف، وكان ذلك اليوم موعد الرحيل إلى الطائف، كنت أقترب منها بقلب واجف، وأحمل فوق رأسي (بقشة ملابس) ملفوفة داخل بطانية، وقطع صمتي صوت جندي كان يقف بجوار السيارة، (إلى أين تسير يا ولد)؟! ذُهلت لسؤاله، ثم أجبته أنني سأسافر على متن هذه السيارة إلى الطائف لزيارة سيدي الوالد هناك، وجاء رد الجندي صادمًا لطفولتي حين قال: ممنوع! وحين أردت الرد عليه، فاجأني بعبارة (توكل على الله)..
* * *
- وما هي سوى دقائق حتى كنت أحمل معي التماسًا مكتوبًا إلى أمير عسير آنذاك تركي السديري -رحمه الله-، أطلب منه الأمر بتمكيني من السفر في سيارة البريد التي طردني حارسها (الجندي)، استمع الأمير إلى طلبي وحين علم أنني ابن صديقه القديم، وجّه كاتبه بإعداد رسالة لمن يعنيه الأمر بتحقيق غايتي، وخرجت من قصر الإمارة، وقلبي يخفق فرحًا بما أنجزته واتجهت إلى سيارة البريد، وسلمت الورقة المختومة بتوقيع الأمير السديري -رحمه الله- فبلع الجندي ريقه ولم ينبس ببنت شفه!
* * *
- حتى الآن، لا أستطيع تفسيرَ ملابسات ذلك اللقاء المفاجئ والسعيد مع سيدتي الوالدة، وكيف شاءت الإرادة الإلهية أن تتوقَّفَ سيارة (الحظ السعيد) أمام مدخل منزلنا المتواضع في الطائف، وكيف أن ذلك اللقاء، رغم فجائيّته، نجح في رتْقِ جزء من الجرح الذي خلّفه رحيلي بعيدًا عن والدتي قبل بضعة أشهر مضَتْ إلى الطائف آملاً في العيش مع سيدي الوالد -رحمه الله-، وبدْءِ مشوار جديد من الحياة!
* * *
- وبعد لحظات من عاصفة الفرح دعوتُ أمي ومَنْ معها بإصرار للدخول إلى المنزل، وتناول طعام العشاء ذلك المساء، وقبلوا الدعوة وسط فرحي الخرافي! ثم غادروا جميعًا بعد ذلك إلى مكة المكرمة مصحوبين بدعائي ودموعي، متمنيًا لهم حجًا مبرورًا، وكانت ليلة من العمر لا تُنْسى!!