د.سالم الكتبي
ما تشهده العلاقات الدولية في الآونة الأخيرة، وتحديداً منذ تفشي جائحة كورونا (كوفيد -19) يبدو غير مسبوق تاريخياً على الأقل منذ طي صفحة الحرب الباردة التي خيمت على العالم لعقود عدة، وانتهت بتفكك ما كان يعرف بالاتحاد السوفيتي وانهيار سور برلين، في الربع الأخير من القرن العشرين.
وفي الاجتماعات السنوية الحالية للجمعية العامة للأمم المتحدة، رسمت كلمات رؤساء وقادة دول العالم صورة قاتمة لما يحدث عالمياً، ورغم أن تلك الكلمات كانت مسجلة مسبقاً وبثت عبر رسائل فيديو بسبب «الجائحة»، فإن الأجواء كانت معبرة تماماً وتعكس حالة من التوتر العالمي، وهي بالتأكيد حالة غير مفاجئة للمراقبين والمتخصصين، لأنها بدت واضحة تماماً منذ أشهر من خلال الغياب التام لأي مستوى من التعاون الدولي في مواجهة تفشي الفيروس، فضلاً عن نشوب صراعات كبيرة وشرسة حول إنتاج اللقاح، الأمر الذي يعكس تراجع، بل انهيار مستويات التعاون والتنسيق الدولي، وغياب تام لكل ما انتجته ظاهرة العولمة من تفاهمات واتفاقات تعاون مشترك في مجالات شتى.
الواقع يقول إن الخطر الذي يهدد العلاقات الدولية يفوق تحذير الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو جروتيريش من نشوب حرب باردة جديدة، بين الولايات المتحدة والصين، فالاتجاه «الخطير جداً» الذي يتحرك نحوه العالم كما قال جروتيريش، لا يبعث على التفاؤل، والشروخ والتصدعات التي تقسم العالم لم تعد تفصله إلى قسمين فقط قد تندلع بينهما حرب باردة كما يُعتقد، والأمر أخطر وأعمق من ذلك، فبجانب الهوة المتزايدة بين الصين والولايات المتحدة، هناك انقسامات «أطلسية - أطلسية» بين واشنطن وحلفائها الأوروبيين، وهناك شروخ داخل أوروبا ذاتها، وهناك نوع من الفوضى التي تخيم على مناطق شتى من العالم، بسبب غياب القيادة العالمية جراء انحسار الدور الأمريكي في قيادة النظام العالمي، وفتور حماس الإدارة الأمريكية الحالية لهذا الدور، وقد ضاعف من تداعيات ذلك وجود تحديات عالمية هائلة لم تفلح المؤسسات الدولية المعنية في التعاطي معها، وفي مقدمتها أزمة تفشي فيروس «كوفيد -19».
يقول الأمين العام للأمم المتحدة إن هناك «انقسامًا تكنولوجيًا واقتصاديً يهدد بالتحول الحتمي إلى انقسام جيواستراتيجي وعسكري»، داعياً إلى تجنب الانزلاق إلى هذه الحالة «بأي ثمن»؛ والحقيقة أن الانقسام التكنولوجي والاقتصاد القائم ينطوي على خطورة تفوق الانقسامات العسكرية والجيواستراتيجية باعتبار أن الأخيرة قائمة بالفعل، إذ لا يمكن القول بأن هناك تعاوناً أو تفاهماً بين القوى الكبرى في المجال العسكري وعلى صعيد التنافس الجيواستراتيجي، ولكن الجديد يتمثل في تحول التقدم التكنولوجي والتنافس الشرس في هذا المجال إلى ساحة صراع أشرس وأكثر خطورة من غيره، لأن التكنولوجيا تعني الثرورة والاقتصاد والمستقبل، وهي البوصلة التي تحدد ترتيب الدول ومؤشراتها في القرن الحادي والعشرين.
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في كلمته دعا العالم إلى محاسبة الصين بعد أن اتهمها بالتسبب في تفشي فيروس «كورونا» عالمياً، وقال «يجب أن نحاسب الأمة التي أطلقت هذه الجائحة على العالم- الصين»، وعاد ليكرر مسمى «فيروس الصين»، بينما بدا الرئيس الصيني شي جين بينج في كلمته أكثر ميلاً للهدوء والدبلوماسية حيث أكد إن بلاده لا تسعى إلى الدخول في حرب باردة جديدة، وقال «الصين هي أكبر دولة نامية في العالم، وهي دولة ملتزمة بالتنمية السلمية والمفتوحة والتعاونية والمشتركة.. ليس لدينا نية للقتال في حرب باردة أو ساخنة مع أي دولة»، رافضاً ما وصفه بتسييس موضوع الجائحة العالمية، ما يعكس تنافر النوايا بين الجانبين، حيث تريد الولايات المتحدة تسريع وتيرة الصدام القطبي وحسمه لردع التنين مبكراً، بينما تتمترس الصين وراء صبرها الاستراتيجي التاريخي الذي ينظر للزمن نظرة مغايرة تماماً للغرب، فلا تستعجل الصراع ولا تريده من الأساس، لأنها تمتلك رؤية استراتيجية واضحة للمستقبل.
المعضلة أن حالة العالم كما بدت في كلمات القادة والرؤساء تظهر صورة بائسة للعلاقات الدولية، وتعكس انهيار منظومات العمل الجماعي، وهي حالة عبر عنها العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني بقوله «إن أزمة فيروس كورونا قد وضعت مرآة أمام عالمنا، لترينا نقاط ضعف نظامنا العالمي». صحيح أن نقاط الضعف ومظاهر الفشل في عالمنا قائمة منذ سنوات وعقود طويلة مضت، ولكن الجديد أن آثار وتداعيات تآكل دور الأمم المتحدة وضعفها لم تكن أبداً كما كانت في الوقت الراهن، حيث غابت المنظمة عن المشهد الدولي تماماً، ولم يعد يسمع لها صوت ولا دور في أي أزمة عالمية، عدا تلك البيانات والتصريحات الرسمية التي يصدرها المسؤولون الأمميون في أعقاب أي تطور أو أزمة في أي منطقة من العالم.
السؤال الآن: هل يمكن للأمم المتحدة أن تنتشل نفسها أو تنقذ دورها من المصير المحتوم؟ الجواب يتعلق بتوافر إرادة دولية لإعادة النظر في دور الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى في ضوء دروس الماضي والحاضر، وما تفرضه التحديات الجديدة على عالمنا، والواضح أن هذه الإرادة لم تتبلور بعد ما يعني أن الأمم المتحدة ستبقى رهن تفاعلات ما بعد كورونا في العلاقات الدولية ليعاد إنتاجها أو هيكلتها أو تفعيل دورها وفقاً لما تسفر عنه تلك التفاعلات التي قد تستغرق سنوات ليست قليلة.