اللواء الركن م. د. بندر بن عبدالله بن تركي آل سعود
ليس ثمَّة شك أنه ينبغي على كل أمَّة دراسة تاريخ عظمائها الذين صنعوا مجدها، وليس ثمَّة شك أن العظمة تختلف باختلاف تفكير الشعوب ونظرتهم إليها، وليس ثمَّة شك أيضاً أن أعظم القادة في العالم هم أولئك المصلحون الصالحون وغيرهم ممن عمل بجد وصدق وإخلاص ونكران ذات، لتحقيق طموح أمَّته في حياة ملؤها الرخاء والسعادة، تستظل بدوحة الأمن الوارفة، التي هي الأساس المتين لكل عمل واستقرار ونجاح في الحياة.
وهذه الأيام ونحن نعيش فرحة ذكرى يومنا الوطني التسعين العطرة التي يفوح شذاها في الأرجاء، إذ نبتهل بصادق الشكر والثناء لله الكريم المتعال سبحانه وتعالى، على كل ما نحظى به في هذا الوطن الشامخ الراسخ، العزيز الغالي الطاهر، الذي ليس مثله في الدنيا وطن، من حياة كريمة سعيدة تسودها المحبة والألفة وروح الإخاء بين أفراد هذا الشعب السعودي الوفي، وتزينها هذه اللحمة الوطنية الاستثنائية الفريدة بين القيادة الرشيدة وشعبها النبيل في طول البلاد وعرضها، من أقصى شرقيها حتى أقصى غربيها، ومن أقصى شماليها حتى أقصى جنوبيها؛ أقول.. اليوم ونحن نعيش هذه الفرحة الكبيرة العامرة، حق علينا أن نتذكر مؤسس بلادنا وصانع وحدتها الذي أرسى دعائمها وشيد بنيانها على أساس متين راسخ، حدَّده دستورها الذي هو كتاب الله العزيز الحميد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ثم سُنَّة رسوله المصطفى الهادي الأمين عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
أجل، اليوم حق علينا أن نجتهد في الابتهال بالدعاء لرب السماء أن يجزي عنَّا المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود، خير الجزاء على ما حقَّقه لبلاده وأمَّته بعد ملحمة التأسيس والتوحيد، من خير وعدل وأمن شامل ليس له في العالم اليوم مثيل. ولهذا كان ذكره الطيب يعطر كل مكان، وصوته يدوي في جميع أرجاء مملكته، كما كادت بطولته الاستثنائية الفريدة أن تكون أقرب إلى الخيال من الحقيقة، إذ شملت إصلاحاته العظيمة مرافق الحياة كلها: سياسية، اقتصادية، عمرانية، علمية، اجتماعية وغيرها.
وهكذا أصبحت هذه المملكة القارة، تتمتع بأرغد عيش، وأطيب نعمة عرفها إنسان الجزيرة العربية، وربَّما الناس في كثير من دول العالم على مر التاريخ المعاصر. ولهذا أيضاً صار الناس يشدون إليها الرحال من كل فج عميق للعبادة والعمل والتجارة والاستثمار والمشورة والدعم والمساعدة وطلب العلم وللسياحة أيضاً.
وعليه، كانت دراسة تاريخ رجل كبير، وقائد فذ، وبطل مقدام، ورجل صالح مصلح كعبدالعزيز أمراً مهماً، بل في غاية الأهمية، لتأمل مواقفه النادرة الفريدة والسير على خطاه للاستفادة من تجربته الثرَّة في تأسيس هذا الكيان الشامخ الراسخ، وتوحيد أجزائه الشاسعة المترامية الأطراف، للعمل بجد ليل نهار في تنمية العمران الذي أسسه بعرقه، مضحيَّاً في سبيله بصحته وراحته ودمِّه الزكي وروحه الطاهرة.
أجل، ينبغي علينا دراسة تاريخ هذا الرجل المصلح الكبير الزعيم الإسلامي الذي رفع راية التوحيد عالية خفاقة، وحكَّم شريعة الإسلام، وحقَّق أعظم وحدة سياسية واجتماعية شاملة على أساسها.. الإمام الباني المؤسس، مجدد شباب دولة العمل والعدل والإصلاح، والعلم والإيمان والاطمئنان، والألفة والتآخي والتعاون على البر والتقوى بين جميع مكوناتها الاجتماعية.
أجل أيها القارئ الكريم، نتطلع جميعاً في هذا اليوم المشرق الذي يصادف ذكرى أعظم حدث تاريخي، وأكثره نفعاً، وأعمقه أثراً في إرساء قواعد هذه الدولة الفتية القوية بالله، على أسس ثابتة من الأمن والإصلاح والتقدم في مجالات الحياة كافة لبلوغ أسمى الغايات.. نتطلع لتأمل تاريخ المؤسس للسير على نهجه القويم والاستفادة منه في تهيئة كل ما من شأنه ضمان استمرار قافلة خيرنا القاصدة إلى الأبد بإذن الله تعالى.
ولأن الجوانب الشخصية لهذا البطل الفذ متعددة متباينة، كما هو حال إنجازاته العظيمة، التي تُعْجِز كل من يحاول حصرها مهما أوتي من معرفة وقدرة وسعة اطلاع، سأكتفي هنا بذكر بعض ما أورده المؤرخون والكتاب والشعراء والمثقفون، من هذا الجانب وذاك، الذين من بينهم من وُلِد في عهد عبدالعزيز الميمون، وشبَّ وشاب، لا يعرف قائداً إلا عبدالعزيز، ولا يرى إلا إصلاحات عبدالعزيز، ولا يسمع إلا بمآثر عبدالعزيز التي نقلها إلينا لنتدارسها جيلاً بعد جيل لكي نعتبر بها، وهل دراسة التاريخ إلا للاعتبار؟.
ولأن الذي قيل في هذه المجالات وغيرها من صفات عبدالعزيز البطولية النادرة الفريدة وإنجازاته المدهشة كثير وغزير يفوق الوصف ويجل عن الحصر، ولأن المجال لا يسمح بالاسترسال كثيراً، سأكتفي بإشارة سريعة هنا لبعض تلك الإنجازات التي حققها المؤسس، إضافة إلى بعض الصفات القيادية المهمة التي اتصف بها، كما جاء على لسان أولئك الذين عاصروه وعرفوه حق المعرفة، أو أولئك الذين أسرتهم شخصية المؤسس الجامعة، فقضوا ردحاً من الزمن وهم يدرسون سيرته المشرقة:
تضحيات عبدالعزيز في ملحمة
التأسيس والتوحيد
يقول الكابتن شكسبير، الموفد الإنجليزي الذي زار الرياض عام 1333هـ - 1914م:
(إن الإمام قد استطاع إيجاد دولة من العدم، وحجب القبائل عن عوائدها المتوارثة، وأشاع العدل في البلاد والطمأنينة في النفوس، بعد أن كانت هذه الصحراء موطن القتال والسلب والنهب).
ويقول محمد طارق الإفريقي، القائد العسكري النيجيري المعروف:
(أجل! لقد وحَّد جلالة الملك عبدالعزيز عرب الجزيرة، وجمع شتاتها وعشائرها، توحيداً تاماً لأنه طهَّر جسمها من الأمراض، وجعل لها كياناً سياسياً، وشيَّد دولة عربية حديثة، اعترفت بها جميع دول الأرض وأممها بالمعاهدات، بعد أن كانت ألعوبة بيد الملوك الأجانب، ودوَّن لها قوانين حديثة «مستقاة من الشريعة الإسلامية» بجميع أنواعها، كغيرها من الأمم الحية، وأحيا مجد عرب الجزيرة بعد موته).
ويقول الكولونيل ويليام إيدي:
(إن ملك المملكة العربية السعودية الذي يوقع باسم «عبدالعزيز آل سعود»، الذي اشتهر باسم «ابن سعود»، كان واحداً من أعظم رجال القرن العشرين، ولقد كان لقيادته الشخصية الفضل في الفوز بهذه المملكة وتوحيد شعبها، فكان قائداً يمتلك من الصفات الأسطورية ما يميزه عن غيره من الناس).
ويقول جان بوول مانيه:
(لقد خلَّف ابن سعود، الذي لقَّبه الإنجليز بـ»نابليون الجزيرة العربية»، مملكة شاسعة تعادل مساحتها نصف مساحة أوروبا، وبلداً يُعَدُّ الثالث في العالم في إنتاج البترول، وكان في الوقت نفسه الزعيم المرموق في العالم العربي.. لقد استطاع ابن سعود في خضم القرن العشرين أن يفجر من غمار الرمال أمَّة جديدة).
ويوافقه في هذا موريس جارنو، إذ يقول:
(عندما وافته المنية، ترك الملك ابن سعود، الذي أطلق عليه البريطانيون اسم «نابليون العرب»، ترك لابنه مملكة مساحتها تقابل نصف مساحة أوروبا، وتُعَدُّ ثالث بلد منتج للنفط في العالم، والزعيمة الروحية للعالم العربي.. موكب مدهش استمر نصف قرن، وملحمة أكثر غرابة من أي قصة من قصص الفروسية صاغت هذه المعجزة. في منتصف القرن العشرين، أنشأ الملك ابن سعود، بعمل أقرب ما يكون لعمل السحر، أمَّة جديدة من الرمال).
من جهة أخرى، حفَّزت هذه الإنجازات المدهشة التي حقَّقها البطل الفذ المؤسس عبدالعزيز آل سعود، وتلك الصفات البطولية الفريدة النادرة التي اتصف بها، قريحة الشعراء؛ إذ يقول الشاعر أحمد إبراهيم الغزاوي، الذي عُرِفَ بـ(شاعر الملك عبدالعزيز)، في قصيدة له بعنوان (ومن محكم الفرقان لألأ تاجه):
به التأم الشمل الشتيت وأقبلت
حظوظ وردَّت في العدو مكائده
وفيه التقى الإسلام من كل جانب
وعزَّت به أخلاقه وعقائده
محا بالحسام العضب كل ضلالة
عن الدِّين حتى هادنته طرائده
وشيَّد بالتوحيد أركان عرشه
وفي العلم راجت من نداه معاهده
وتلك بيوت الله تشهد أنه
به عُمِّرت في كل ربعٍ مساجده
ويقول الغزاوي، هذا الشاعر المبدع في قصيدة أخرى بعنوان (كَرُمت يعرب)، مخاطباً الملك عبدالعزيز:
جمع الله في ظلالك شعباً
عربياً، سماته الإيثار
وبيمناك من هداه لواء
نسجته بيمنك الأقدار
رفَّ فوق الحصون أخضر زاهٍ
وبه انقض جيشك الجرار
وتهادت به العواصم نشوى
حيثما استشرفت به الأقطار
هو رمز التوحيد يحنو عليه
في الميادين سيفك البتار
إلى أن يقول:
وحدة أصبحت، وفيها استقامت
في أقاصي تخومك الأمصار
ويقول الغزاوي أيضاً في قصيدة أخرى بعنوان (أنت أعليت بالهدى كل صرح):
جمع الله في ذراك شتاتاً
مزَّقته الشفار وهي قواطع
ولأخي العزيز أبو بندر، الأمير خالد الفيصل، بهذه المناسبة السعيدة التي نحتفي بها اليوم، قصيدة جزلة جامعة، تكاد تصور الملحمة كلها، كعادة دايم السيف دائماً، إذ يقول:
تسعين عامٍ والشهادة علمنا
وحدة وتوحيد وسيفٍ تثنى
من يوم أبو تركي تنهَّض ونجَّم
قاموا نشاما العز ما حدٍ تونَّا
وخلَّف رجاجيل على قدر الأحداث
وانصاح صايح قالوا فداك حنَّا
وجتنا على المنوه وعيَّت على الغير
وما كل عشَّاقٍ وصل ما تمنى
وإن قاله الله نجعل الحلم واقع
ونطوع الصعاب بالعزم منَّا
نبني عمار الدَّار بأفكار وعلوم
ونصنع سلاح جيوشنا في وطنَّا
طِقّوا طبول النَّصر في يوم مجده
وسلّوا سيوفٍ بالشجاعة تغنى
بسط الأمن الشامل
صحيح، إنجازات عبدالعزيز بعد التأسيس والتوحيد تُعْجِز من يحصيها، إلا أن استتباب الأمن في ربوع البلاد، لاسيَّما أمن حجاج بيت الله الحرام، حتى غدا السائر من اليمن إلى الشام لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، يُعَدُّ أبرز تلك الإنجازات.
ويقول جيرالد دي غوري في هذا:
(إنه ليصعب أن نتخيل تبدلاً جذرياً يتحقق في مثل ذلك الوقت القصير، حتى ليمكن القول بكل ثقة: لو أن قافلة أسقطت كيساً في الصحراء، فلا بد من العثور عليه، بعد ستة أشهر، في الموضع نفسه، فالأمن في العربية السعودية مدهش، وهو أكثر شمولاً منه في أي بلد أوروبي).
ويقول أحمد حسين، السياسي الكاتب المصري في هذا أيضاً:
(... عندما ذهبت لحج بيت الله الحرام عام 1353هـ، كانت شهرة ابن سعود قد سبقته باعتباره الرجل الذي أمَّن الحج إلى بيت الله الحرام، بما لم يسبق له مثيل، بعد أن كان الحج يساوي رحلة: الذاهب إليها مفقود، والعائد منها مولود... كان الحاج يُذْبَح كما تُذْبَحُ الشاة على مرأىً ومسمعٍ من الناس، فلا يستطيع أحد أن ينبس ببنت شفة، إلا إذا أراد أن يلحق به... أمَّا في عهد ابن سعود، فقد أصبحنا نسمع عن الحاج الذي سقطت منه حقيبة نقوده على الطريق العام، فظلت حيث هي عدَّة أيام بلياليها حتى جاء صاحبها والتقطها بنفسه...).
ويقول محمد نصر مهنا:
(إن الرجل يعتبر ظاهرة فريدة، كان أكثر من ملك، وأكثر من مؤسس دولة، وأكثر من مصلح وإمام. جعل الأمن والاستقرار وتأمينهما من أول بديهيات الدولة. صحيح أنه كان حازماً، غير متسامح في إقامة الحدود، أو متهاون مع كل من يخل بالأمن والنظام، وقد أدى ذلك إلى انتفاء وقوع الجريمة، كما نجح في تأمين استمرار دولة قوية من بعده، تسير على هدى القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية، والتمسك بتعاليم وأحكام الدين الإسلامي القويم، والتقاليد العربية الأصيلة).
ويقول محمد أبو النجا:
(كنت أسمع وأنا صغير أن المتوجه لحج بيت الله وروضة رسوله، يُعِدُّ أكفانه بين طيات زاده، ويترك وصيَّته، ويودِّع الأهل والصحاب خشية عدم رجوعه. أمَّا اليوم، فقد أصبح السفر لتأدية فريضة الحج رحلة ممتعة، تحفها أسباب الطمأنينة والأمان).
ويقول صلاح الدين المختار:
(... إذا كان العدل أساس الملك، فالأمن أول مظهر من مظاهر العدل، وفي نجد اليوم من الأمن ما لا نجده في بلادنا أو في بلاد متمدنة...).
أمَّا في ما يتعلق برأي الشعراء، فلا أجد مناصاً في الحقيقة من الاستشهاد بما أنشده الشاعر أحمد إبراهيم الغزاوي، صاحب الشعر الجزل الذي يأسرني شعره الرصين هذا كثيراً، إذ يقول في قصيدة بعنوان (تلك المساواة في الإسلام لو علموا):
وأبصروك على الإيمان محتجزاً
وكل ما رامه الحجاج موفور
أمن مكين وظل وارف وقرى
والماء بين الفيافي الشسع مغمور
أعددت كل الذي يغدو الحجيج به
مرفهاً لا يضره فيه تكدير
وحطتهم مشفقاً تعنى براحتهم
كأنما الفرد فيهم منك منصور
***
يا مغذي السير للأوطان في عجل
حدث ربوعك: إن الحج ميسور
واقر السلام عليهم ثم صارحهم
بما شهدت فما في المكث معذور
وامح الذي قام في الأذهان من زمن
عن الحجاز ولا يغرنك تزوير
كما يقول الشاعر نفسه في رائعته بعنوان (لبيك تعداد الرمال):
أمنت من الخوف الوفود،
وكم تولاها الخبال
حيث استقل الركب يمرح،
في أمان وانتهال
لا يستضام ولا يراع
و لو على شروى عقال
أحييت عصر الراشدين
وقد وصلت به الحبال
بعد الفجائع والفظائع
والمصارع والقتال
ولقد أذقت الجامحين
على المدى كأس الوبال
ويقول الشاعر المبدع الغزاوي أيضاً:
بأمن لا نظير له بأرض
وعدل يوسع الجاني عقابا
ولم ينشر لواء المجد عفواً
ولكن بعد تزجية غلابا
كما قال الشاعر أحمد محمد الكناني، أحد أعضاء وفود حج عام 1349هـ/ 1930م:
وللحجاز مليك من خالقنا
به هو ابن السعود الفيصل الدرب
الصائب الرأي والأقوام طائشة
آراؤهم وصواب الرأي محتجب
والثابت الجأش في ليل الخطوب وفي
فصل الخطاب إذا ما عيي من خطبوا
عبد العزيز، نشرت الأمن في بلد
كانت نفوس البرايا فيه تنتهب
وقد أقمت حدود الله معتمداً
على العدالة فارتاعت لها العصب
إذ ما رعوا حرمة البيت الحرام ولا
خافوا الإله ولم تردعهم النوب
فكان خير دواء أن ضربت على
أيديهم فاستتب الأمن واحتجبوا
فأنت أنت الذي لولاك ما أمن
الحجاج بل أنت في ذي الراحة السبب
العدل
كما سبق أن أكدت في كثير من مقالاتي، أن إنجازات الملك عبدالعزيز تفوق الخيال، لكن يظل الأمن والعدل الذي سارت بأخباره الركبان، أعظم تلك الإنجازات وأكثرها أثراً، بعد ملحمة التأسيس والتوحيد. ويقول أحمد الصاوي محمد، الصحافي المصري في عدل عبدالعزيز:
(يمثل الملك ابن سعود الإيمان في أجمل وأكمل أشكاله، فالإيمان هو الذي جعل فئته القليلة تغلب جيوش خصومه الكبيرة. وقد كان مؤمناً قبلما يصير ملكاً، وظل مؤمناً بعدما صار ملكاً. وعُرِفَ للملك حقَّه في شيئين عظيمين: العدل المطلق والاتصال بالعالم.
فأصبح كل صعلوك حافي القدمين في مملكته يستطيع أن يستوقفه ليقول له: مظلوم يا طويل العمر. فينصفه ولو كان من ولده وفلذة كبده... نفَّذ أحكام الشريعة فانقطعت السرقة، وفرض عقوبات صارمة على القبائل التي تخفي القاتل، فانقطعت الجريمة...).
ومثلما كتب المؤرخون والأدباء والمثقفون والمفكرون عن عدل عبدالعزيز، كذلك سحر عدله الشعراء. وفي تقديري المتواضع، يُعَدُّ بولس سلامة، شاعر ملحمة عيد الرياض، أروع من صور عدل عبدالعزيز في رائعته الملحمية تلك، إذ يقول:
يا ابن عبد الرحمن، عدلك أصفى
من رفيف الأريج في البيلسان
فوحه شاع كالضياء على الصحو
ودفق العبير في نيسان
جاوز المدن للقفار الخوالي
واستوى عرفه على الكسبان
أنت فيها رفيق كل وحيدٍ
جاز ما بين جدة وعمان
بين وادي الدواسر الموحش القفر
وبين النفود فالصمان
بين ثغرٍ لفارس حضن الدر
وبحر كنوه بالأرجواني
ليس بعد الإله إلا خيال
منك يحمي قوافل الركبان
***
عدلُ عبد العزيز، ردَّ إلى الصحراء
عدلَ الفاروق بعد الأوان
ومع هذا أيضاً، يظل ما قاله المؤسس نفسه تجسيداً رائعاً، ينضح بالصدق عن عدله، وخشيته لربه من ظلم أي فرد من أفراد رعيته، إذ يقول في إحدى خطبه الشهيرة:
(على كل فرد من رعيتنا يحس أن ظلماً وقع عليه، أن يتقدم إلينا بالشكوى.. وعلى كل من يتقدم بالشكوى أن يبعث بها بطريق البرق، أو البريد المجاني.. على نفقتنا. وعلى كل موظف بالبريد أو البرق أن يتقبل الشكاوى من رعيتنا ولو كانت موجهة ضد أولادي وأحفادي وأهل بيتي. وليعلم كل موظف يحاول أن يثني أحد أفراد الرعية عن تقديم شكواه، مهما كانت قيمتها، أو حاول التأثير عليه، ليخفف لهجتها، أننا سنوقع عليه العقاب الشديد. لا أريد في حياتي أن أسمع عن مظلوم، ولا أريد أن يحملني الله وزر ظلم أحد، أو عدم نجدة مظلوم، أو استخلاص حق مهضوم.. ألا قد بلغت، اللهم فاشهد).
ولا غرو في هذا، إذ بفضل الله سبحانه وتعالى، ثم بجهد المؤسس الباني، ثم التزام أبنائه البررة الذين تولوا قيادة السفينة من بعده، يقر العالم كله اليوم، من أقصى غربيه إلى أقصى شرقيه، ومن أقصى شماليه إلى أقصى جنوبيه، أن العدل بصمة سعودية خالصة، مثلما هو كذلك الحال في ما يتعلق بموضوع الأمن الشامل.
والحقيقة، الحديث ذو شجون عن هذا الرجل الصالح المصلح الذي أسس لنا هذا الصرح الشامخ: عن ذكائه، بساطته، تواضعه، صراحته، صدق نيته، وضوح رؤيته، شجاعته، حكمته، حلمه، كرمه، فصاحته، حنكته، صبره، قدرة تحمله، عزمه، حزمه، إخلاصه، إقدامه، عدله، عبقريته المتفردة، إنسانيته المتدفقة، حسِّه الأمني المتقدم، فكره المستنير، ثقته بربه وصدق توكله عليه، حبه لأبناء شعبه، لبلاده، واعتداده بعقيدته، واستعداده لبذل الروح رخيصة من أجل خدمة رسالة أسرته.
وبالطبع، هذا فضلاً عن إنجازاته العديدة من تحكيم للشريعة، تحضير البدو، تحديث الجيش، الاهتمام بالزراعة، تحديث التعليم والبعثات التعليمية، تعبيد الطرق وتيسير سبل المواصلات والاتصالات، الصحة، البترول والمعادن والمياه وصحة البيئة وكل ما من شأنه توفير وسائل المدنية الحديثة ليهنأ شعبه بالحياة التي يستحقها ويتمناها له عبدالعزيز، بل يعمل ليل نهار لتحقيقها.
أما اهتمامه بشؤون العرب والمسلمين، لاسيَّما دفاعه المستميت عن قضية فلسطين والأقليات الإسلامية، فلم يكن يقل شأناً عن اهتمامه ببلاده وأبناء شعبه، لأنه يرى ذلك من صميم رسالة هذه البلاد الطيبة الطاهرة.
وأختم هذه الفقرة بأبيات رصينة للشاعر صالح بن سليمان بن سحمان، من قصيدته بعنوان (سادت مكارمه بين البرية) التي حاول جاهداً أن يجمع فيها جل مآثر المؤسس، إذ يقول:
ملك تحلَّى بأخلاق مهذبة
وبالمكارم والإحسان والشيم
ملك جليل عظيم القدر منتبه
ماضي العزيمة ذو فضل وذو كرم
ملك عظيم له الأملاك خاضعة
ذلاً ورعباً وخوف الصارم الخدم
نور البلاد الذي سارت مكارمه
بين البرية من عرب ومن عجم
وبعد
كما يؤكد خادم الحرمين الشريفين، قائد قافلة عبدالعزيز القاصدة إلى الخير والعدل والسلام والأمن والأمان والاطمئنان، سيدي الوالد الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود في كل المناسبات الوطنية: (إن تاريخ الملك عبدالعزيز، يرحمه الله، لا يقتصر على جوانب الكفاح وإنجازات التوحيد، وإن كان هذا في حد ذاته جهد عظيم، تنوء بحمله العصبة من أولي القوة.. بل يبرز شخصيته الإنسانية وما تميزت به من صفات نادرة. ويتأكد لنا هذا من خلال آثاره في العالمين العربي والإسلامي والعالم ككل. وتلك المنجزات الهائلة التي حقَّقها عبدالعزيز لوطنه وشعبه والأمتين العربية والإسلامية، ومناصرته لقضايا الحق والعدل والسلام في العالم).
فالحمد لله رب العالمين حمد الشاكرين، الذي قيَّض لنا هذا الرجل الصالح، ليؤسس لنا وطناً شامخاً، أصبح شامة بين الأمم، تعاقب على قيادته وإدارة دفته من بعده أبناؤه الغر الميامين، فساروا على الدرب ذاته، وجاء كل خلف يُعْلِي بنيان السلف، ويضع مزيداً من اللبنات عليه؛ حتى أصبحنا اليوم في هذا العهد الزاهر بقيادة مليك الحزم والعزم والرأي السديد سلمان الخير، يؤازره ويشد من عضده ولي عهدنا الأمين القوي بالله، عرَّاب رؤيتنا الذكية الطموحة (2030).. أصبحنا نسابق دولاً تدَّعي العظمة في مجالات البنية التحتية كلها. أمَّا في مجالي السياسة والاقتصاد، فقد تفوقنا على كثير من تلك الدول، فأصبحت بلادنا رمانة ميزان سياسة العالم واقتصاده، فما تنحل عقدة إلا بمبادراتها الذكية المخلصة الحكيمة الحازمة.
والحقيقة، الحديث هنا يطول، غير أنني أكتفي فقط بإشارة سريعة لما حققته بلادنا من سبق فريد أذهل العالم كله، غنيه وفقيره، فيما يتعلق بفلسفة طب الحشود، الذي انفردت به بلادنا وحدها من دون سائر البلدان، وظهر ذلك جليَّاً في جهود الدولة الحثيثة لمحاربة جائحة كورونا التي لم يشهد العالم لها مثيلاً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وزادت دهشة العالم، بل فغر فاهه عندما استطاعت قيادتنا الرشيدة إقامة شعيرة الحج في العام المنصرم، في وقت تجاوزت الإصابات بالجائحة الملايين في شتى أنحاء العالم، وناهز عدد الوفيات المليون. فما كان لدولة الرسالة أن تسمح للظروف، مهما قست، أن يسجل التاريخ ضدها تعطيلها لفريضة الحج، في سابقة هي الأولى من نوعها منذ أن فرض الله الحج على عباده المؤمنين؛ ناهيك عمَّا تضطلع به بلادنا من رعاية للحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة التي تمثل ذروة سنام رسالتها؛ إضافة إلى رعاية شؤون العرب والمسلمين الذين تقاتل من أجلهم أعوان الشرك والضلال والخراب والدمار في كل مكان، وقد أعدت لهذا الأمر أحد أعظم الجيوش في المنطقة والعالم على حد سواء من حيث العدة والعتاد، يغبطنا عليه الأصدقاء ويخشى دوي مدافعه الأعداء.
أقول، ما كان لدولة دأبها العمل والإنجاز والإبداع أن تركن للكسل وتستسلم للظروف، وهي التي ناهزت العالم (الأول) في الصناعة والعلم والاستثمار والتجارة وتوظيف التقنية، وإقامة المشروعات العملاقة في كل المجالات، حتى تحولت كما يصفها قائدها اليوم الملك سلمان، إلى ورشة كبيرة عملاقة تضج بالحركة والحياة.
فكل عام قيادتنا الرشيدة بخير، وبلادنا العزيزة الغالية التي ليس مثلها في الدنيا وطن بخير، وشعبنا الوفي المخلص النبيل بخير، وفي أمن وأمان وسلام واطمئنان.