د.فوزية أبو خالد
تابعت برامج التلفزيون العربية مما انقطعت عن مشاهدته لما يزيد على ثلاث سنوات إلا إن «كسراً» جديداً في قدمي لعب دور الضارة النافعة، فكنتُ أحاول أن أطل على مجريات الأمر في وطني بعد انقطاع من خلال بعض تلك البرامج.
وقد وجدتُ شيئاً من ضالتي في برنامج الأسبوع في ساعة على روتانا خليجية تقديم الصحفي المتمرِّس إدريس الدريس، بإعداد ثلة من الشباب بإشرافه ومنهم الشاب المُجِيد إبراهيم العدوان. وهو برنامج يتميز بحضور عدد من العاملين في صناعة الموقف في المشهد الثقافي والسياسي والاجتماعي العام من كتَّاب الرأي والأكاديميين على اختلاف تخصصاتهم من الاقتصاد إلى الإعلام.. في محاولة منهم لتقديم قراءة وحوار للحدث السياسي المحلي والإقليمي والعالمي الأبرز في الأسبوع المعني. ويجري ذلك بتحلّق المضيف والضيوف حول طاولة على هيئة دائرة برلمانية يتاح فيها تعدد الآراء في القضايا المطروحة بأريحية تتراوح حظوظها ما بين الحرية والتحفظ. ومع أنني كنتُ في حلقات سابقة ما قبل 2017 أحد الضيوف الدوريين لهذا اللقاء فقد كان للمتابعة في هذه الفترة الكوفيدية رائحة وملمس مختلف.
وهنا سأتناول عدداً من الأفكار التي استقيتها من متابعتي لحلقتين غير متتابعتين من هذا البرنامج، لسبت التاسع عشر والسادس والعشرين من شهر سبتمبر، نظراً لما وجدته فيها من أفكار تأخذ منحى المصارحة والمصداقية والموضوعية في تحليل مواقف غاية في الأهمية والحساسية مما نعيشه اليوم على مستوى داخلي وخارجي إلا أنها نادراً ما تعالج بروح التساؤل المسؤول وليس بروح المسلَّمات التي لا تقبل الاختبار. وكان اللقاء بحضور.. د. فهد العرابي الحارثي، أ. خالد السليمان، أ. عبدالله ناصر العتيبي ود. يوسف الحزيم.
وتناول هذه الأفكار لن يكون بتسلسلها في الحوار المشار إليه أعلاه ولكنه سيرد مع إضافتي عليها وتأطيرها بإطار أبعد من آنية الحدث بالترابط التالي:
هذا مع الاستضاءة ضمنياً بأسئلة مستمدة من أدبيات علم الاجتماع بحكم تخصصي في النظر للعمران البشري.
الفكرة الأولى تنبع وتصب في إعادة التبصّر بواقعنا الاجتماعي والسياسي والوطني في علاقته ببعدين أساسين من أبعاد تشكل المجتمعات وهما بعد الاستقرار والتغير. فتأسيس المملكة العربية السعودية نفسها في ظروف إقليمية وعالمية مضطربة قبل تمام الربع الأول من القرن العشرين كدولة مستقلة موحَّدة مترامية الأطراف متعدِّدة الجغرافيا والتكوين الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، من الفيافي إلى الواحات ومن الجبال إلى السواحل، ومن اختلاف التقاليد والعادات النسبي إلى تعدد اللهجات والقبائل والطائفة والمذهب ومن الاعتماد على نمط الإنتاج الرعوي والزراعي الكفافي إلى الانتقال لعصر الاستثمار النفطي مع تكوينات اجتماع بشري وتنوّع سكاني كانت تتجاور فيها البداوة والتحضّر وبوجود أطياف متمازجة وأخرى متمايزة فيما بين المكون الاجتماعي لكل من البادية والحاضرة، لم يكن ليتم لولا جدلية الاستقرار والتغيّر. فبدون جدلية الاستقرار والتغيّر وإن بدا بطيئاً ويرجح كفة الثبات على التحول وينحاز إلى الطبيعة المحافظة فإننا لم نكن لنعيش اليوم منجزاً وطنياً اسمه وحدة البلاد ولم تكن الدولة لتصل في قيادة العمران الاجتماعي بسلم أهلي وفي الحفاظ على «عقد البيعة الاجتماعي» بتراض سياسي وشرعية ضمنية إلى عامها التسعين وهي فتية بمعدل سكاني عال من قوى الشاب وبقاعدة تعليمية واسعة وباستمرارية تنموية وإن تراوحت فإنها الأكثر صموداً في محيطها العربي رغم ظهور تحديات سياسية في كل عقد من التسعين عقداً، بحيث لم يخل كل عقد أو عقدين من مواجهات تتفاوت حدتها من الغيوم إلى الرياح العاصفة. و(ربما أرجع في مقال مستقل للكتابة عن تحديات التسعين عقداً من مواجهة «السبلة» واكتشاف النفط إلى «حادثة الحرم «وحرب الخليج الثانية وما بينهما وما تلاهما من تحديات). وفي ضوء ما أوردنا في هذا المدخل الطويل يصبح من واجب المواطن والعاملين في صناعة الموقف وفي حقل التعبير بالرأي، عدم التردد في حمل المسؤولية لتقديم المشورة على الأقل في مجال تدقيق النظر في استحقاقات جدلية الاستقرار والتغير خاصة في هذه اللحظة التاريخية من عمر المملكة العربية السعودية التي تشهد تغيراً لافتاً غير مسبوق في جديته وفي جدته.
فالأفكار المطروحة للتفكر أفكار تستحق الإصغاء ومنها على وجه التحديد فكرة تعزيز اللحمة الوطنية بالتصالح والإصلاح. وكذلك الفكرة النيِّرة بتتويج تمكين الشباب والنساء الذي تحول من مطلب، بل من أمنية بعيدة المنال إلى واقع حقيقي يعيشه المجتمع السعودي في المركز والأطراف ... بالعمل في المقابل على تمكين القوى الاجتماعية من الكفاءات والخبرات ليكون التغيير المنشود بتكامل قوى المجتمع بالجمع بين الخبرة المعرفية والميدانية وبين الجديد العلمي والعملي.
لب الفكرة عدم قصر التمكين على الجانب التنفيذي في مشهد التغيّر العام، بل استيعابه وتمكينه لتكون كافة القوى القادرة في المجتمع جزءاً فعَّالاً من الخيال الاجتماعي الصانع للتغيّر وعنصراً عاملاً في تحمّل مسؤولية وضع السياسات ومصاعب التوصل للقرارات.
ومن الأفكار الاجتهادية البناءة أيضاً ضرورة التفكر في اختيارات متنوِّعة نحو عمل مخلص مسؤول لبحث صيغ مُحَدَثة لإطار دستوري جديد يتفاعل مع جدل الاستقرار والتغيّر تفاعلاً حيوياً يستطيع تقديم تشريعات كبرى ومحددة في الوقت نفسه، وكذلك تقديم أسس تجديدية إضافية لشرعية العلاقة التعاقدية بين الدولة والمجتمع. فالتغيّرات الموسعة والسريعة وبخاصة تلك التي تستبدل ميدانياً نهجاً بنهج آخر وأسلوباً معيشياً بأسلوب مغاير تحتاج لتأطير دستوري فلسفي وقيمي وسياسي مواكب. هذا بالإضافة للتنويه وإن جاء عرضياً بمغبة الفراغ الفكري والوحشة الروحية والتضعضع القيمي الممكنة في مثل هذه الحالات إن لم تستدرك ببدائل تحترم حق التعبير وتسمح بطرح الآراء بصدر رحب.
ومن الأفكار المرادة أيضاً فكرة أن يكون للمملكة العربية السعودية مشروع وطني ببعديه الداخلي والخارجي يقدِّم المملكة عربياً وإقليمياً وعالمياً كقيادة عربية وإسلامية ليس فقط بناءً على ذلك الاستحقاق الجغرافي والتاريخي الفذ للمعنى الرمزي والوجود الفعلي للأراضي المقدسة ولأرض اللبن والعسل كأكبر احتياطي نفطي في العالم، بل وأيضاً بناءً على قدرتنا واجتهادنا في تقديم المشروع الحضاري السعودي المُجِدد فكرياً وفقهياً والحفي بالسلام العالمي وبأطروحة العدل والكرامة والحرية والمساواة لتسود العالم والأفكار تستكمل في مقال لاحق - بإذن الله.