د. عبدالرحمن بن عثمان المرشد
لا تكاد ترد مسألة في الفقه الإسلامي إلا وللفقهاء فيها أكثر من رأي، أقلها قولان، وهذا الخلاف عائد إلى اختلاف الفقهاء في فهم النص القرآني وثبوت السند إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إذ هما عمدة التشريع في الفقه الإسلامي, وبعدها ظهر الإجماع والقياس والاجتهاد الذي لا يخرج عن هذين الأصلين الكتاب والسنّة ومعلوم أن أهل الفقه ليسوا رهباناً منقطعين في صوامعهم، بل هم أكثر الناس اختلاطاً بغيرهم، فهم أئمة للصلاة وخطباء في الجمع وموثقون للعقود وعاقدون للأنكحة ومعلمون وقضاة ومفتون، لا يكاد يمر يومهم دون سائل في المسجد أو الشارع أو المناسبات الأسرية أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي وهم أقدر الناس على إدراك متغيرات الزمان وحاجات الناس, بل لا تخلو ولاية حاكم من أمراء المسلمين عبر 14 قرنًا من مشير من أهل الفقه لولي الأمر، فكان الصاحبان رضي الله عنهما مع الرسول صلى الله عليه وسلم والفاروق مع أبي بكر رضي الله عنهما وبعدها بزوغ نجم صغار الصحابة ابن عمر وابن عباس مع عثمان وعلي رضي الله عنهم، وانتعشت المسائل الفقهية بتوسع دولة بني أمية وأرسيت المدارس الفقهية في دولة آل العباس وظهرت مجلة الأحكام العدلية في الخلافة العثمانية.
وأذكر هنا مسألة لعلها تعين على فهم ما ذكرته وهي اختلاف الصحابة رضوان الله عليهم في فهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة) متفق عليه.
فهذا النص النبوي اختلف في العمل به الصحابة رضوان الله عليهم فأولهم التزم النص وحث المسير إلى بني قريظة حتى خرج وقت الصلاة وصلاها حال وصوله لبني قريظة، والأخير أعمل العقل وفهم من النص الحث على السير فصلى العصر في وقته ثم واصل المسير، وصوب النبي صلى الله عليه وسلم فعل الطرفين، فكان هذا التصويب إقراراً لمدرستي الفقه وتأسيس علم الخلاف الفقهي.
ما ذكرته آنفاً لا يخفى على طلبة العلم الشرعي, إذ هي المقدمة المتعارف عليها في كليات الشريعة في مادة الفقه المقارن.
ولأن من الأصول المعتبرة في الفقه الإسلامي عدم التشنيع على المخالف واعتبار الخلاف في فهم النص والقياس عليه والاجتهاد في محيطه أمراً فطرياً، وممن كتب في هذا الفن تقي الدين ابن تيمية في كتابه رفع الملام عن الأئمة الأعلام، وابن تيمية وإن كان حنبلي المذهب إلا أنه اختار أقوالاً من المذاهب الأخرى ولا يكاد يخلو مذهب من فقيه مختار من غير مذهبه، كما أقر أهل الفقه أنه لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان، ومن قراءاتي إبان الثانوية العامة (1408- 1410هـ) على النظام المطور في تخصص الدراسات الشرعية والعربية رسالة (كتيب صغير الحجم) بعنوان أدب الخلاف لمعالي الشيخ د. صالح بن حميد.
أكتب مقالي هذا وقد قاربت 50 حولاً وحصلت على درجة الدكتوراه قبل نحو 15 عاماً من نواة التعليم العالي في بلادنا وهي كلية الشريعة في جامعة أم القرى، لهذا سأتحدث عن 100 عام وعيت منها 40 عامًا وسمعت من والدي -رحمه الله- عن 30 عامًا عاشها وقبلها 30 عامًا سمعها من جدي رحمهما الله.
وقبل أن أبدأ بعرض المسائل الفقهية أعرف بمصدري وهو والدي/ فضيلة الشيخ د.عثمان بن إبراهيم المرشد (1364هـ - 1433هـ) أستاذ أصول الفقه بجامعة أم القرى لنحو 40 عاماً، ومتعاقد بعد التقاعد بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية/ المعهد العالي للقضاء، عضو المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي.
ومستعينا بالله أبدأ.
* قبل ما يقارب المائة عام كان عقد المعاهدات وترسيم الحدود مع الدول غير المسلمة أو (الكيفران)؛ أي الكفار كما كانت تسمى وأبرزها إبرام المعاهدات مع بريطانيا واستقبال سفرائها، وكانت وقتها إحدى شبهات (اخوان من طاع الله) لمظنة أن الرضا بوجودهم يعارض معتقد (الولاء والبراء) رغم أن التاريخ الإسلامي قد عرف السفراء باسم الرسل في عهد النبوة، إذ حفلت كتب السير برسل استقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم ورسل من الصحابة أرسلهم صلى الله عليه وسلم واختص لذلك ترجمان يحسنون لسانهم انظر: الترجمة في عصر صدر الإسلام, أ.د. علي إبراهيم النملة، ونقل والدي عن جدي وبعض أقرانه -رحمهم الله- أن أهل الرياض كانوا يمتعضون من رؤية الدبلوماسيين الإنجليز المستعمرين للهند والعراق وإمارة شرق الأردن عند حضورهم للملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- وقد كلف قاضي المجمعة الشيخ العنقري - (ت 1373هـ) لمناقشتهم في شبهاتهم ومنها هذه الشبهة. وهذه الاتفاقيات والمعاهدات قد أحسن شاعر الجزيرة ابن عثيمين (ت 1363هـ) بتصويرها على أنها انتصار، كيف لا وهي موقعة من التاج الذي لم تغب عنه الشمس لكثرة المستعمرات تحته فقال: مادحاً فتح الأحساء وبسط سيطرة البطل ابن سعود على أهم موانئ الخليج:
فتح تؤرج هذا الكون نفحته
ويلبس الأرض زي المازح الطرب
فتح به أضحت الأحساء طاهرة
من رجسها وهي فيما مر كالجنب
قد كنتم قبله نهباً بمضيعة
ما بين مفترس منكم ومستلب
روم تحكم فيكم شرع ذي سفه
أحكام معتقد التثليث والصلب
فزالت وطأة وجودهم على الناس، انظر: العقد الثمين من شعر محمد بن عثيمين.
* ولما أظهر الله البترول وتحولت حياتنا من الفاقة إلى الترف واستناداً إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يجتمع في جزيرة العرب دينان) متفق عليه، أفتى من سلف من العلماء بعدم جواز استقدام عمالة غير مسلمة في بلادنا إلا للضرورة والضرورة يقدرها رب العمل واعتبار الحكم في المسألة عائداً لديانته. وإبان الحوادث الإرهابية منتصف العقد الأول من الألفية الميلادية الثالثة ونقصد الفئة الضالة لوافدي الدول النافذة بالاغتيال انبرى معالي الشيخ عبدالمحسن العبيكان في برنامج على قناة (MBC) كان يعرض بعد صلاة الجمعة في التصدي لدحض شبه الفئة الضالة ومنها رده أن فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في إخراج المشركين من جزيرة العرب أن القصد هو إخراج من لهم كيان كنصارى نجران ويهود خيبر ومكان دائم يقيمون ويظهرون فيه شعائرهم وتكون لهم فيه شوكة، أما العمالة التي تستقدم لفترة معينة محدودة بمدة عقد فهي خارجة عن النهي بدليل بقاء أبي لؤلؤة المجوسي وهو مملوك في المدينة والعابرين من الشرق إلى الغرب عبر جزيرة العرب فإنهم بقوافلهم يسيرون ثم يقيمون ثم يسيرون وهكذا حتى يحين موعد رحيلهم. ولما أضحى الوافدون غير المسلمين ظاهراً وجودهم في بلادنا وأخذوا حكم البلوى إذا عمت وتعسر الاستغناء عنهم بفعل توسع مشاريع التنمية صار خريجو كليات الشريعة عماد مراكز دعوة الجاليات للإسلام.
* وذكر لي والدي -رحمه الله- أنه في فترة التسعينيات الهجرية اندثر التحضير في المساجد لصلاة الفجر فأعقبه تهاون من البعض في صلاتها جماعة وكان في مناسبة اجتماعية وأظهر عدد من الحضور غضبه من هذه الظاهرة حتى تطور الحديث فيها إلى التكفير قال: فقلت مهدئاً من نبرة الكلام (ترى التكفير كايد، والمسألة خلافية، والأمر فيه سعة) وذكر أن كلامه قوبل بامتعاض كبار السن، كيف لا وقد اعتادوا على ذلك منذ جرى عليهم قلم التكليف، والفتوى كانت وما زالت أنها من الواجبات، والناس يتبعون أهل الذكر وليسوا مكلفين بالبحث، لهذا كانت الفتوى على حرمة فتح المحال التجارية وقت الصلاة بناء على هذا الاختيار الفقهي.
* ومما سمعته من والدي -رحمه الله- أن إذاعة الكويت كانت تصل إليهم في محافظة المجمعة في منتصف السبعينيات الهجرية, وكان بعض الجيران يسمرون تلك الليلة على برنامج البادية وآخر البرنامج قصيدة على أنغام الربابة، وما كانت تطلع الشمس والناس في أسواقهم إلا وحادي ينغم بصوته قصيدة البارحة, وكان (النواب) رجال الحسبة يتحسسون من يظهر صوت مذياعه لحرمة الموسيقى فيقومون بتعزيره، قال: وفي كلية الشريعة تفاجأنا نحن الطلاب باستشهاد الأزهريين بقصائد عربية ويشيرون إلى أنها مغناة من أساطين الطرب مصحوبة بالمعازف دون إنكار, وعند البحث والسؤال ظهر أنهم يأخذون برأي ابن حزم في حكمها, وبرغم أن جل خريجي كليات الشريعة يرون حرمة الغناء إلا أن الحدة التي كانت في السابق قد خفت كونهم أدركوا أن المسألة خلافية فالتمسوا العذر لغيرهم.
* ومن المنهيات التي عاصرها والدي في السبعينيات الهجرية عدم السلام على العائد من خارج المملكة 3 أيام وخص منهم العائد من الكويت والبصرة، والتي ببحثي فيها لم أجد لها سنداً فقهياً وذكر لي والدي -رحمه الله- أن أكثر من كان يتقيد بهذا الرأي هو الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله التويجري (ت 1416هـ) عالم المجمعة في وقته وأحد طلبة الشيخ العنقري وقاضٍ سابق امتهن البيع في دكان له لما اعتزل القضاء وكان ثقة عند أهل المجمعة في الفتوى، إذ يقول أبي في صنيعه: وافقته مع أكثر من عائد من السفر لا يسلم عليه حتى تمضي 3 أيام وأنا ابن 12 حولاً.
* وفي الثمانينيات لا ينسى أهل ذلك الجيل المعارضة الشديدة لقرار افتتاح مدارس البنات لولا صلابة الحكومة في فتحها، انظر: الدرر السنية في الأجوبة النجدية. وبعد عقود رأينا نتاج هذا القرار في سعوديات يتقلدن أسمى وظائف التعليم والطب والإدارة وأرقى المناصب السياسية من مديرة جامعة إلى وكيلة وزارة فعضوة بمجلس الشورى وسفيرة لخادم الحرمين الشريفين، بمباركة دينية ومجتمعية بعد أن كان المجتمع يعارض بفعل فتاوى سد الذرائع.
* وفي ذات العقد ظهرت فتنة التلفاز الذي كان غالي الثمن ولا يقدر عليه إلا علية القوم لهذا لم يشغل فقهاء ذلك الزمان بسبب افتقار كثير من أحياء العاصمة والمدن والقرى لخدمة الكهرباء.
* ومن طرائف ذلك العقد عبارة (معفى) التي كانت توضع مكان الصورة في التابعية لفتوى حرمة التصوير أخذاً بظاهر الأحاديث المحرمة ومنها (إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون) متفق عليه، وما إجازة الصورة على الوثائق الرسمية في ذلك الزمن إلا من باب تحقق الضرورة والضرورات تبيح المحظورات (انظر: الأشباه والنظائر لابن نجيم). وبعد عقود اتسع نطاق البحث في المسألة وورد في فتاوى خريجي كليات الشريعة مصطلح حبس الظل والفرق بينه وبين الرسم والنحت فأجيز الأول وبقي الثاني على التحريم حتى وصل الحال إلى قيام المشايخ بالتقاط صور (سيلفي) دون نكير، انظر: مقال د: محمد العوين (مواقف طريفة في التصوير) جريدة «الجزيرة» 8 - 6 - 2019م.
* وفي التسعينيات كانت أصوات المنابر مزلزلة للتحذير من البنوك، وأبرز من كان يبحث في مسائل المعاملات البنكية في تلك الحقبة الزمنية هو الفقيه القانوني الاقتصادي معالي الشيخ/ صالح الحصين، والتي قال عنها في محاضرة له برابطة العالم الإسلامي كنت حضرتها مع والدي -رحمهما الله- عام 1424هـ إنه واجه استهجاناً من مشايخه ووصفه بعض أقرانه بأنه من أصحاب السبت يشير إلى اتهامه بأنه يبحث في الاحتيال إلى تحليل المحرم.
* وفي مطلع القرن الهجري الخامس عشر ظهر الجهاد الأفغاني الذي هو بحق كان جهاداً لله وفي الله، إلا أن الأحزاب المنتسبة للإسلام روجت لأفكار التفجير والعمليات الانتحارية والخروج على ولي الأمر فكانت فتنة مرحلة عند المجتمعات الإسلامية فيأخذهم العقل تارة وأخرى يموج بهم الحماس وما استفاق البعض منهم إلا والخراب قد حل بديار الأفغان وديار انتقل إليها فكر الإرهاب، وواجه خريجو كليات الشريعة هجوماً شرساً من المتحمسين يوم بينوا أن الجهاد انتهى بخروج السوفييت وأن القائم وقتها حرب أهلية بين طوائف الأفغان وهي فتنة ينبغي على المسلمين اعتزالها، فاستعان المتحمسون بفتاوى قديمة عن الولاء والبراء فكونوا القاعدة التي انطلقوا منها لأوطانهم واستحلوا الدماء بالتكفير، فكان جرمهم مادة أساسية لخطب الجمع والأعياد والمجامع الفقهية، بل تناوله الباحثون في الدراسات العليا الشرعية.
* ومع ظهور الأمم المتحدة وانضواء دول العالم تحت جناحها وصارت المرجع للدول في شؤونها السياسية، رأى خريجو كلية الشريعة أن مصطلح دار الحرب لم يعد له مكان بعد عقد الاتفاقيات وتعهد الدول بالالتزام بمواثيق الأمم المتحدة، وهي من الشبه التي تمسكت بها الفئة الضالة فكانت جريمة 11 سبتمبر أبرزها.
* كذلك من مظاهر التدين والتعديل إعفاء اللحية، فكانت اللحى الكثيفة سمة رجال ذلك العصر ولم يكن ذلك قاصراً على المشايخ، بل عامة الناس وعليتهم بالذات، إذ كانت تظهر الهيبة والوقار، أما حرمة حلقها فلم تكن موضع شك، وإبان دراستي الجامعية رأيت بعض الأزهريين يحلقون لحاهم ورأيته وقتها أمراً منكراً فسألت والدي عن ذلك، فنهرني أولاً عن تسمية أشخاص بعينهم، وعلمني أن الأزهريين شمال القاهرة كطنطا وما فوقها شافعية، والشافعية يرون إعفاء اللحية من المندوبات يؤجر تاركها ولا يؤزر حالقها، وأمر فطري أن يكون من طلاب كليات الشريعة من تأثر بشيخه الشافعي.
* أما التسعينيات الميلادية فكانت حافلة بالفتاوى والأحكام الخاصة بالقنوات الفضائية حتى تجرأ من وصف مقتنوها بالدياثة، ثم صار خريجو كليات الشريعة ركناً في برامجها لما رأوا أنها وسيلة من وسائل الدعوة باعتبارها مما عمت به البلوى وصعب على الناس الاستغناء عنها.
* ولي مع القنوات الفضائية حكاية، إذ استأذنت شيخي فضيلة أ.د. حمزة الفعر بحصر برامج الفتاوى مع ضيوفها وتدوين موعدها وأبرز الفتاوى فيها، لما وزع بين الزملاء في مرحلة الدكتوراه عام 1423هـ البحث عن مصادر المسائل الفقهية النازلة في العصر الحاضر باعتباري ذلك الوقت ربما أكون المجاهر بين زملائي باقتناء (الدش) ومن خلال متابعتي لتلك البرامج في القنوات الفضائية على اختلاف توجهها الفقهي دونت ملاحظتي بعدول أكثر المفتين إلى رأي تقي الدين ابن تيمية باعتبار طلاق الثلاث بلفظ واحد يقع طلقة واحدة وما زاد عن الواحدة لغو لا يعتد به، بعد أن كان فقهاء المذاهب يعدونه طلاقاً بائناً، ويصرحون في فتواهم أن الزمن الحالي لا يصلح معه إلا هذا الرأي لما فيه من مصلحة تماسك الأسرة وعدم شتات أولادها، وهو قول قال به عالم معتبر فقهاً وتقوى. ومن رغب الاطلاع على مجهودي وزملائي سيجده مجموعاً في مكتبة جامعة أم القرى موقعاً بإهداء فضيلة شيخنا أ.د. حمزة الفعر.
* ومع بداية الألفية الميلادية الثالثة جاء فتح جديد لشباب بلادي بإقرار برنامج الابتعاث الخارجي وعادت نبرة (التحريم والتحذير) التي حرمت بعض من تورع من جيل السبعينيات الهجرية من الالتحاق به، الذي قال عنها معالي الدكتور ناصر الصالح مدير جامعة أم القرى سابقاً في احتفاء تعيينه مديراً للجامعة عام 1423هـ أن بعض زملائه لم يستطع التأقلم وخشي الفتنة وقطع بعثته وعاد إلى المملكة إبان ابتعاثه إلى بريطانيا مطلع الثمانينات الهجرية. وفي الابتعاث ظهرت مسألة حجاب المبتعثات اللاتي فوجئن بأن مسألة غطاء الوجه خلافية من عهد الصحابة ولم تظهر هذه المسألة إلا بعد أن أظهر الخلاف فيها خريجو كليات الشريعة.
* جمع سماحة الشيخ عبدالله البسام عضو هيئة كبار العلماء ورئيس محكمة التمييز بمكة سابقاً -رحمه الله- سيرة علماء نجد في ثمانية قرون في سفر قيم عز نظيره وقد وردت لوالدي -رحمه الله- نسخة منه فكنت شغوفاً بهذا المؤلف ومن خلال قراءتي لاحظت أن المكتبة النجدية لا تتجاوز بضعة كتب كلها في الفقه الحنبلي وليس استنقاصاً للمذهب أو صاحبه امام السنة، لكن ملاحظتي أنه لم يرد فيما قرأه علماء تلك الحقبة أسفاراً من المذاهب الأخرى ولم تكن البلاد النجدية المهيمنة على الفتوى على موقع يسمح لها بالالتقاء بعلماء العالم الإسلامي في ترحالهم لطلب العلم أو الرزق ولهذا كان الجمود في الفتوى سمة تلك الحقبة فلا مصادر فقهية متنوعة ولا مسائل فقهية مستجدة، علاوة على أن الفتوى قائمة على الأخذ بالأحوط الذي لم يخل في تطبيقه من شدة، والظن الحسن بهم أن اختيارهم له براءة لدينهم من الوقوع في المتشابهات، حتى بات الناس يستنكرون الفتوى على خلاف ما درجوا عليه إلى أن أظهر الله خريجي كليات الشريعة في مكة 1369هـ والرياض 1373هـ والمدينة 1381هـ الذين أبحروا في مسائل الفقه المقارن مع وفرة المسائل الفقهية الناتجة عن الحراك الاقتصادي والاجتماعي ووفرة مدونات الفقه في مكتبات الكليات وتتلمذهم على فقهاء من مذاهب شتى من الوافدين أبرزهم مشايخ قبلة العلم الأزهر العريق فأجازوا التعامل بمعاملات البنوك وحركوا بهذا ثروة هائلة كانت تقتصر في تعاملاتها على تجارة الماشية والعقار والزروع بعد أن كان مشايخهم يحرمون الاستظلال بظلالها. وفي مسائل البنوك الفقهية يبرز اسم فضيلة أ.د. يوسف الشبيلي الأستاذ بالمعهد العالي للقضاء، وفي سوق الأسهم ظهرت مصطلحات فقهية اقتصادية دقيقة كشركة نقية وأخرى بضدها وبينهما مختلطة تفرعت منها عدة مسائل فقهية هي ما يبحثه تحليلاً وتحريماً طلبة كليات الشريعة في الدراسات العليا منذ عقدين تقريباً. علاوة على قيام البنوك بإدراج لجان الرقابة الشرعية في هيكلها الإداري, والتي منحت الثقة للناس مواطنين ووافدين للاستفادة من فرص الاستثمار بها، وأظهرت الاقتصاد الإسلامي للاقتصاد العالمي.
* ومع زيادة التكاليف المعيشية وما يقع للنساء من حرج بتأخر سن الزواج أباح خريجو كليات الشريعة بعد النظر للمفاسد والمصالح الطارئة في هذا الزمن زواج المسيار الذي واجه استنكاراً اجتماعياً واستهجاناً دينياً بداية السؤال عنه وكان أحد قرارات المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي في دورته الـ(18) عام 1427هـ.
* وفي ذكرى اليوم الوطني تعلو كل عام فتاوى تحريم الاحتفاء به باعتباره بدعة منكرة عند من سلف من علمائنا وأخذ من خلفهم - بفتح اللام- من خريجي كليات الشريعة بهذه الفتوى حتى كادت أن تكون إجماعاً إلى أن فاجأ فضيلة أ.د. عبدالعزيز الفوزان مشايخه وأقرانه بفتوى خرق فيها إطباق السلف والخلف على فتوى التحريم وحولها إلى مسألة خلافية، إذ قال في بيان مطول اجتزئ منه ما يهمني في هذه المسألة قوله: (..فقد سئلت في إحدى القنوات الفضائية عن حكم تخصيص يوم لما يسمى باليوم الوطني للتذكير بنعمة توحيد هذه البلاد المباركة ووجوب المحافظة على أمنها ومكتسباتها، فأجبت بأن المشهور عن كثير من مشايخنا هو منع ذلك وأمثاله من الأيام التي توافق عليها العالم في عصرنا الحاضر، وإن بعضهم متردد بين تحريمها وكراهتها وبعضهم يحرم بعضها، وذكرت أنه لا يظهر لي مانع شرعي من تخصيص يوم للوطن كما هو الحال في كل دول العالم..) وبإمكان من رغب الاستزادة الرجوع إليه عبر مواقع التصفح بالإنترنت. وبهذا البيان صار للناس فسحة بالأخذ به.
* ومثله الاحتفال أو الاحتفاء بعيد الميلاد للمولود وكذا يوم الزواج والتخرج واعتبارها من العادات بعد أن كان من سلف من العلماء يعدونها بدعة منكرة في الدين إذ قاسوها على العيدين.
* ولا ينكر منصف أن إجازة خريجي كليات الشريعة لنظام التأمين الذي أقرته الدولة كان رافعاً لمشقة عظيمة يدركها من عاصر عهد تحريمه.
* وفي ظرف سياسي عصيب إبان احتلال الكويت خرج بعض النسوة مطالبين بتمكينهن من قيادة السيارة التي تصدى لها بكل حزم علماء ذلك الزمان فأفتوا بمنع وليس تحريم قيادة المرأة للسيارة لما رأوا بما لهم من شمول النظر عدم تهيؤ المجتمع لمثل هذا الحدث واعتمدت الحكومة هذا القرار. وبعد ثلاثين عاماً جاء الأمر الملكي الشهير الذي اعتبر تحولاً ثقافياً للمجتمع السعودي وتناولته المنظمات الحقوقية باهتمام وهو اعتبار قيادة المرأة للسيارة حقًا من حقوق المرأة على السواء بالرجل ومما جعل المجتمع السعودي يطمئن هو نص الأمر الملكي على أن هذا القرار جاء بعد إجازة هيئة كبار العلماء لهذا القرار التاريخي الذين هم جيل مشايخي أوائل خريجي كليات الشريعة.
* وقبل إقرار قيادة المرأة للسيارة كان تعينها في مجلس الشورى الذي نص فيه على أن القرار لم يتخذ إلا بعد استشارة عدد من العلماء من داخل هيئة كبار العلماء وخارجها، والمتمعن في تاريخ القرار عام 1432هـ يدرك أن المتصدرين للفتوى وقتها كانوا ثمار كليات الشريعة بعد أن حلوا مكان مشايخهم رحمهم الله.
* ونذكر بكل الفخر ما طرأ على القضاء السعودي من تطوير مع وصول جيل كليات الشريعة خريجي مطلع القرن الهجري الخامس عشر إلى سدة الإدارة وما أنتجه المعهد العالي للقضاء من قضاة بمؤهلات عليا ودخول مصطلح الدورات في وزارة العدل فكان التنظيم الشكلي والمدونات الموضوعية واستخدام التقنية.
* وفي هذا العقد جاءت صناعة الترفيه إكمالاً لما ينعم به المواطن السعودي من رفاهية، وبالحديث عن الترفيه نتذكر حكماً قضائياً في أوائل الثمانينات الهجرية اشتهر عبر نشره هذه الأيام في وسائل التواصل الاجتماعي حول تعزير لاعبي لعبة (الكيرم) التي بالاطلاع على حيثيات الحكم نجد أن التحريم جاء من باب سد الذرائع وهو أصل معتبر في الفتوى، بينما أفتى خريجو كليات الشريعة بالجواز كأصل وأن التحريم يطرأ عليها إن ألهت عن طاعة الله كتفويت الصلاة عن وقتها أو نجم عنها مشاحنة. وأبرز ما تناقله الناس في هذا إجازة معالي الشيخ أ.د. عبدالله المطلق للعبة (البلوت). والترفيه ليس بدعة في أمة الإسلام فقد رد نبينا صلى الله عليه وسلم على الصديق رضي الله عنه لما أنكر لعب الحبشة في المسجد بقوله: لتعلم يهود أن في ديننا فسحة) رواه أحمد. ومنها مسابقته للحميراء بنت الصديق رضي الله عنهما رواه أحمد وأبو داوود والنسائي وابن ماجة, ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه حتى تطلع الشمس فإذا طلعت الشمس قام، وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية وينشدون الشعر فيضحكون ويبتسم, رواه مسلم. كما ضرب الدف في حضرته صلى الله عليه وسلم، وبمثل هذا الحديث عن سوق عكاظ الذي ذكر عدد من المؤرخين أنه من آثار الجاهلية هدمه الإسلام. ورد فريق من المؤرخين أنه استمر قائماً في عهد النبوة والخلافة الراشدة وحكم بني أمية وزواله كان لأسباب سياسية واقتصادية منها ظهور الحرورية - فرقة من الخوارج- ومنها استغناء الناس عنها بسوق الحج {...لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} (الحج - 27). (انظر: أخبار مكة، معجم البلدان، تاريخ ابن عساكر). وعليه ففي المسألة قولان.
ولم تخل منتديات الناس من الترفيه في مناسباتهم فظهر في عهد بني أمية المنشدون وازدانت دولة آل العباس بالفنون، وعرفت الأندلس بالموشحات. حتى المعازف في حكمها لم تخل من الخلاف الفقهي كما أسلفت, وبوجود الخلاف في حكم المسألة فليس للمحرمين مصادرة حرية أضدادهم في إجازتهم لها والاستمتاع بها. فإن من سلف من الفقهاء أقروا الخلاف في مسائل الفقه، وأقروا الخلاف في أصول ترجيح الأقوال، وأقروا تغير الأحكام بتغير الأزمان, وحثوا المخالف بالتزام أدب الخلاف.
وآخر المقال: قاعدة مهمة، مع إقرار الفقهاء بالخلاف الفقهي فإنهم رأوا أن المسألة إذا كانت عامة وكان الخلاف فيها يؤدي إلى الفوضى جاز أن يعتمد الحاكم رأياً يلزم الناس به ووضعوا لذلك قاعدة (حكم الحاكم يرفع الخلاف) ولا يكون الأمر والنهي مشاعاً بين الناس، بل هو بحدود ما يمنحه الحاكم من سلطة منعاً للفوضى، (فتصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة) - انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي والأشباه والنظائر لابن نجيم والفروق للقرافي.
** **
- عضو النيابة العامة سابقًا