د.محمد بن عبدالرحمن البشر
أرض بلاد الرافدين والشام ومصر، مهد لحضارة العالم، وهذا لا يعني عدم وجود حضارات أخرى مزدهرة، وربما متزامنة معها في فترات معينة في الصين والهند، وفي غيرها من الدول، لكن ذلك التميز جعلها مطمعاً للشعوب المجاورة، وربما غير المتحضرة، وكان سكان بلاد الرافدين والشام الكنعانيون وغير الكنعانيين قد أنشأوا دولاً ذات شأن، وفي المقابل كانت مصر دولة موحدة في معظم فترات تاريخها العريق والمميز في قطبيها الشمال والجنوب.
كانت قبرص قد استنشقت نسيم تلك الحضارة الكنعانية والمصرية ذات العبق الذي يريح القلب، ويسلب اللب، ويقوي الجسد، وروت جزء من ضمأها من ذلك السليل الحضاري المتدفق، وقد استطاعت قبرص صناعة النحاس الأحمر، والفخار الملون، وزرعت الأفيون وتاجرت بذلك مع جيرانها في المشرق.
كانت بابل في العراق قد مدت إمبراطوريتها إلى مساحات واسعة، لكنها عجزت عن مواصلة تحمل عناء الحفاظ على ذلك، فأخذت في الانكفاء، تاركة وراءها فراغاً جلب أطماع الآخرين، وذلك قبل ثلاثة آلاف عام ونصف مضت من يومنا الحاضر.
من سوء الطالع على تلك الحضارة العريقة، أن عرقاً يعود إلى جبال زاجروس، في غرب إيران، يقال لهم الكاسانيين، قد بدأوا بتشكيل قوة لا تحمل أي خلفية حضارية، وبعد وفاة الملك البابلي الشهير حمورابي صاحب القوانين المسماة باسمه، ذلك الفراغ في السلطة، فهجموا على بابل، ودمروا أجمل الحضارات، وأبهاها، وأقاموا معاقل أغراهم في أماكن تبعد بضع كليومترات عن بابل، لقد فتحوا تلك المدينة الحضارية الرائعة للسلب والنهب والتدمير واقتلعوا أسرة حمورابي من الملك، وأقاموا دولتهم البعيدة عن الحضارة.
كان المصريون يراقبون المشهد، ويخشون على حضارتهم من أولئك القوم، لكن مجموعة أخرى في هضبة الأناضول قد بدأت تتشكل، ويعودون في أصولهم إلى الهند وأوروبيين، الذين تدفقوا من براري آسيا فيما فوق الهضبة، ويقال لهم الحيثيين، وكونوا دولتهم هناك.
بعد حين سحرهم نسيم الحضارة الشرقية، وأغراهم ضعف الدويلات المنتشر من الناحية الواقعية، فقرروا غزو تلك البلاد المتحضرة والغنية فبدأوا بمدينة حلب، وكانت عاصمة لدولة كنعانية آمورية تسمى «يامخد» وبعد حروب كثيرة استطاع هؤلاء الغزاة أن يدخلوا حلب بعد أربع سنوات من المحاولات وتدمير المدن الأخرى التابعة لتلك الدول الكنعانية المسماة «يامخد»، وإحداث فوضى سياسية وتشويه الوجه الحضاري الجميل لتلك البقعة من أرض الشام، لم تكتف تلك الحملة العسكرية بما فعلت في حلب، بل توجهت إلى بابل، وأنهت وجودها عام 1530 ق م وذلك مثبت في السجلات الحيثية والبابلية، وهكذا سقطت دولة «خانا» في بابل على يد هؤلاء الحيوثيين الذين لا هم لهم إلا جمع الغنائم، كما كان يفعل العموريون السلابون النهابون، دون وازع ولا رادع وبهذا أصبح الطريق ممهداً للقوة الصاعدة للكسائيين غير المتحضرين القادمين من إيران.
هناك جنس آخر جذبته حضارة العراق والشام ومصر، يقال لهم الحوريون، ولغتهم وثقافتهم ليست سامية، ولا هندو أروبية، ولا أحد يعرف من أين أتوا، فهناك من يقول إنهم جاءوا من أرمينيا متسللين قبل ذلك التاريخ، أي في عام 1670 قبل الميلاد. أو ربما جبال زاجروس وكثرة أعدادهم حتى أصبحوا يشكلون ثلاثين في المائة من سكان شمال سوريا، لكنهم بعد وصول الحيثين أصبحوا قوة فاعلة، وذلك بالتمازج معهم، لا سيما أن الحيثين قد استخدموا لغة الحوريين، وأصبحت هي لغتهم الأساسية.
وقد حمل هؤلاء القوم معهم بعض التقاليد الآرية مثل ركوب الخيل والحنطور، وحرق الجثمان دون دفنه.
لقد شكل هؤلاء الحيثيون والحوريون قوة جديدة، على أنقاض حضارة عريقة، وفيما بعد فتحوا الباب بعد ضعفهم للكسائيين غير المتحضرين القادمين من إيران أن يعيثوا فساداً في أرض الحضارات.
لا يمكن لحضارة ما أن تستمر، إذا لم يكن لديها قوة ذاتية أو عن طريق التحالفات، وقد يستغل الطامعون فترة ضعف للانقضاض عليها، وهذا ما حدث في العراق وسوريا في تلك الفترة من الزمن، بينما بقيت مصر في مأمن نظراً لقوتها ومنعتها، وحتى مصر تعرضت في فترة النزاع الداخلي لغزو البدو الهكسوس الذين حكموا مائة عام، ثم أخرجهم المصريون، وبعدهم كان الأشوريون والبطالمة، لكنهم تقمصوا حضارة مصر وافتخروا بها.