تعد الأغنية من الحالات التعبيرية التي يقدمها الفنانون في مجتمعاتهم لأغراض ترفيهية أو توجيهية بما تحمله من مضامين نابعة من وجدان المجتمع ومبدعيه ضمن مكوناتها المتعارف عليها وهي الكلمة والصوت واللحن وهي تختلف قطعاً عن التأليف الموسيقي البحت غير المتوفر في مجتمعنا بشكل كامل وملحوظ. ويتم تصنيف الأغنيات في الغالب بحسب مُسميّات التعبير العام التي جرى تحديدها بثلاثة مستويات: المستوى العادي, المستوى الإبداعي, المستوى المَرَضي أو المنحرف. إذن الأغنية تتطور كما هو حال أيّ شيء في الحياة.
في السعودية الأغنية حاضرة بأشكالها البسيطة بداية تأسيس الدولة السعودية الثالثة, بعد توحيد أجزاء البلاد على يد الملك عبدالعزيز -طيَّب الله ثراه-، إذ كانت الجغرافيا فقط تحدد ملامح هذه الأغنية بمحدودية لا تسمح بتطورها، فهي في أغلب المناطق عبارة عن: تراث خاص بكل منطقة لا يوجد فيها تأثير نغمي صريح عدى المناطق الجنوبية الجبلية التي يعتمد تراثها على نغم المزمار وكذلك المناطق الشمالية التي وجد النغم في موروثها عن طريق الشكل النغمي البسيط في الربابة. فيما في الأحساء التعبير الصوتي للنَّهامة هو أساس تشكيل الأغنية لاحقاً, وفي المنطقة الوسطى شكَّل الإيقاع في الموروث النغم الضابط للأداء والذي أصبح فيما بعد أساساً نغميَّاً.
أما المنطقة الغربية: فكانت الحالة النغمية هي الأكثر تطوراً. لتأثرها بالثقافات الخارجية مباشرةً, مما سمح لها بالظهور بالمظهر الإبداعي دائماً, ومنظومة العمل الجماعي كفرق فنية متخصصة لها ضوابطها الملحوظة. وقد استقطبت الفنون من جميع المناطق وتلاقحت معها, مما ساهم لاحقاً أن تكون مصدراً للإبداع الحر الذي ينهل من الفنون اليمانية, والإيقاعات الهندية, والإفريقية, وشرقية الموسيقى المصرية, التي تزاوجت مع الموروث المحلي, لتنتج أهم الكوادر في مكة وجده والطائف والمدينة.
• طلال مداح ظهور مفاجئ في الطائف
في عهد الملك سعود تطورت الأغنية جملةً وتفصيلا, بعد دخول المذياع, وانتشار الحفلات المنظَّمة بشكل رسمي, ودخول موسيقى الجيش كعنصر ولاعب رئيس في تصدير الكوادر الموسيقية الفنية للساحة. فشهدت ظهور مواهب وأصوات لديها القدرة على تقديم أغنيات منفلتة من إطار التراث الشكلي إلى فضاء أرحب اكتسب صبغة التنافس والتطوير, فكان للموسيقار الراحل (طارق عبدالحكيم) اليد الطولى في التأسيس و»الأكدمة» الموسيقية والمساهمة في تطور الذائقة نحو أغنية سعودية لها خصوصيتها في النغم والكلمات. فشهدت تلك الفترة ظهور وانتشار لافت على المستوى العربي بألحان لا تنسى أهمها (يا ريم وادي ثقيف وتعلق قلبي) وأغنيات أخرى. إلى أن شهدت حفلات الطائف ظهور (طلال مدًّاح) المفاجئ, وكان نقلةً نوعية في الإمكانيات غير المعتادة نقلت الأغنية السعودية من مرحلة إثبات الوجود إلى مرحلة التنافسية العربية ولوي الأعناق. ثم توالى ظهور المواهب والأصوات المميزة بكثرة لاحقاً وأصبح هناك التخصص فأوجدت هذه الفترة متخصصون بالتلحين والكتابة والغناء بشكل قريب جداً من الاحتراف.
• محمد عبده وعبادي الجوهر
استمر (طارق عبدالحكيم) بالتلحين وظهرت أسماء جديدة فيه مثل (فوزي محسون, عبدالله محمد, سراج عمر, سامي إحسان, عمر كدرس وغازي علي) وآخرون. أما الأصوات فظهر (محمد عبده وعبادي الجوهر ولاحقاً علي عبدالكريم ومحمد عمر ...)
فيما ظهرت مجموعة من المبدعين في اتجاه آخر. يعتمد على الموروث الشعبي في اللحن والكلمة. وأسسوا مدارس فنية في هذا اللون (اللون الشعبي) ومن مدارسه ورموزه (سلامه العبدالله, سالم الحويل, حجاب بن نحيت, عيسى الأحسائي, وحمد الطيار لاحقاً وآخرين).
بعد دخول التلفزيون للمجتمع تألقت الأغنية وأصبح للإنتاج الفنّي قواعده ومساهمته بتأسيس مجتمع فني حضاري، حيث كان التلفزيون أهم جهة إنتاجية لعبت دوراً إستراتيجياً في انتشار الأغنية لتحقيق أهدافها برفع الذائقة الجمالية وإرضاء الشغف الاجتماعي وشهد ظهور برنامج مسرح التلفزيون العلامة الفارقة في ذلك، حيث شهد تألق جميع عناصر النغم للتنافس ومزج الفن التعبيري الحديث مع الفن الشعبي التراثي.
نشأت بالتزامن مع ظهور مسرح التلفزيون مجموعة من شركات الإنتاج الفني التي قدًّمت الكثير من التجارب الفنية المعتمدة على تحقيق النجاح الجماهيري من خلال توزيع (الأسطوانات) فازدهرت الحالة الغنائية السعودية لأول مرة بشكل لافت وارتفع مستوى التعبير النغمي عن الحالة البدائية ليصل لصيغة التخت الشرقي للجميع فأفرزت هذه المرحلة مجموعة أصوات لها طابع النجومية كمصطلح جديد نظراً لمستوى المهارة النغمية كما في حالة (بشير حمد شنان) أو الصوتية (فهد بن سعيد) أو الشّعرية (حجاب بن نحيت), وأصبح هناك تصنيف يختص بالفنانين بحسب التوجه التعبي ري ومستواه.
• «الكاسيت» قضى على الفنانين السعوديين
في أواسط التسعينيات أصبح ظهور الكاسيت قاصماً لهذا الزخم الإنتاجي بحيث قضى على مجموعة كبيرة من الفنانين وكذلك شركات الإنتاج المعنية، واستمر مجموعة الصف الأول في الإنتاج فيما اختفى البقية حتى تنظيم معطيات هذه المرحلة بحفظ الحقوق ونشؤ شركات إنتاج خاص تقدم رعاية خاصة بشكل احترافي عال المستوى بدأت بشركة هتاف للفنان (سلامة العبدالله) وحافظت على فن وفنانين اللون الشعبي الذي يمثّل سلامة نفسه مدرسته الكبرى, مما سمح باستمرار هذا اللون الغنائي المحبب. وفي المقابل نشأت «فنون الجزيرة» في محاولة لإنتاج فن منافس عربياً يعتمد على النجومية الاحترافية، فيما ظهرت شركات أخرى خاصة وأخرى منافسة أوجدت مناخاً فنياً تنافسياً إبداعياً قدم لنا كوكبة من النجوم من أهمهم (عبدالمجيد عبدالله, رابح صقر, راشد الماجد, عبدالله رشاد) وآخرين.
استمرت الأغنية بهذا الشكل التصاعدي رفيع المستوى حتى ظهور وسائل التواصل الاجتماعي وأهمها اليوتيوب والذي قضى على القدرة الإنتاجية المنظمة وسمح للقدرة الإنتاجية الخاصة أن تعيد تشكيل مستوى الأغنية بحسب توجهها وتزامن ذلك مع ظهور صيغ منافسة للأغنية نفسها مثل الأناشيد و»الشّيلات» التي ساهم انتشارها اللافت في التأثير على محتوى الأغنية نفسها ومضامينها فظهرت صيغ تنفيذ تحاكي هذه النوعية التعبيرية معتمدة على تقليص مساحة النغم على حساب هيمنة الإيقاع مع الترجمة اللفظية وأصبحت الأغنية تعاني من فراغ نغمي ملحوظ لكنه بدأ بالعودة التدريجية من خلال استحداث هيئة الترفية والتي أوجدت نوع من التوازن من خلال الحفلات التي تعتمد على حضور الفرق الموسيقية ومشاركتها في ترويج النغم من خلال مواسم السعودية في جميع مناطق المملكة, ولكن هذا الحراك غير كافٍ فما زالت الأغنية السعودية بحاجة ماسَّة للتأسيس الأكاديمي وإنشاء المعاهد اللازمة لتقديم كوادر وطنية تستطيع توثيق الموروث بحسب كل جغرافيا المملكة واختلافها الاجتماعي والثقافي بشكل علمي دقيق وكذلك التعرف على مجالات الموسيقى خارج إطار الأغنية نفسها والتعامل مع النغم كمهنة خارج إطار الهواية كما هو منذ البداية حتى هذه اللحظة.
كما ولا بد من تفعيل المؤسسات الحكومية المعنية مثل جمعية الثقافة والفنون ومعهد ثقِّف للعمل كجهة موازية تعنى برفع مستوى الناتج غير الربحي للهواة وتدعيمه. ويمكننا من خلال هذه المشاركة تتبع الحالة النغمية الغنائية بهذا التدرج الأتي: حالة بدائية منطوقة/ دخول الآلة (مزمار وربابة) / موروث وإيقاع / عود وإيقاع / تخت شرقي / فرقة موسيقية كاملة / برامج صوتية حديثة ومؤثرات.
يمكن تقديم الشكر الكامل للرموز الخالدة والمؤثّرة تاريخياً: طارق عبدالحكيم تأسيس، طلال مداح انتشار، عبادي الجوهر آلة، محمد عبده صوت، سلامه العبدالله مدرسة شعبية، حجاب بن نحيت حاله شعرية، سراج عمر حالة لحنية، الموسيقار طلال حالة إنتاجية، بدربن عبدالمحسن ومحمد العبدالله الفيصل عطاء كتابي فريد. وبهذا نكون قد قاربنا من تلخيص مشهد الأغنية السعودية باختصار شديد بملمح تأريخي.
** **
بسام حمد السلامة - جمعية الثقافة والفنون، سكاكا الجوف