هدى مستور
الاستغفار هو طلب المغفرة.
والمغفرة تقتضي الستر والمحو معاً.
وهو تعبير عن عمل قلبي وجارحي، يفيد دوام توثيق العقد وتجديد العهد مع الله، ويترتب عليه صقل القلب، وشفاء النفس، وجبر الروح، وسلامة الجسد، وحسن السلوك، وتطهير مسالك الرزق القادمة من الله وحده دون ند أو شريك.
جرت عادة أفهام الناس على أن الاستغفار تجاه الذنب، لأجل علو وتعظيم مقام الله عزَّ وجلَّ، ويقع الذنب بمخالفة أوامره جلَّ وعزَّ، والاجتراء باقتراف المعصية المنصوص على النهي عنها وحسب، ومع التأكيد على صحة هذا الفهم، وعظم الذنوب وفداحة دلالتها، إلا أن الله كما أنه لا ينفعه طاعة المطيع وهو جلَّ في علاه {وَمَنْ تَزَكَّى فإِنَّمَا يَتَزكَّى لِنَفْسِهِ} (فاطر 18)، فهو سبحانه لا يضره عصيان العاصي، إذ إن أثر الذنب يبوء به صاحبه وحده، ويجرح ويخدش ويلطخ نفس المذنب دون غيره، {وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ} (النساء 111).
كما أن مفهوم الذنوب لا يقتصر على المناهي التي جاءت النصوص الشرعية بالأمر باجتنابها فحسب؛ فهناك أنواع كثيرة من الذنوب تقع منا بسبب تلك المخالفات الظاهرة والكبيرة، وبسبب غيرها من الصغائر والخفايا، مع تفاوتها في قدرها؛ إذ الذنوب تتفاوت في تأثيرها على النفس البشرية، يحدث الذنب في حق النفس بحملها على ما يخالف فطرتها، التي فطرها الله عليها، ويؤثّر الذنب في أعماق النفس بتهميش رسالتها ودورها، وللذنب تأثير متتابع وغائر في حق النفس كذلك بالتقليل من قدرها، في كل مرة، وتجاهل فرديتها، وسحق بعض أجزاء كينونتها، وعدم المبالاة بما ميزها وكرمها الله به، وفضلها على سائر الخلق، وهذا قد يحدث من النفس للنفس بصورة متعمدة وإن كان في الغالب يقع منه في حال جهل وغفلة وضعف وعي وقلة انتباه، ومن صور ذلك ما يقع كثيراً من خلال أحاديث النفس الخفية عن طريق الاستجابة لنوازع النفس الشيطانية التي تداوم على توقع الشر وتربص السوء، وإساءة الظن، أو بالانتصار لمواقف التمرد والاستعلاء والرفض، أو تبرير خطاياها وتسويغها، أو حتى بالإفراط في تقريعها وتوبيخها، وتأنيبها، أو بممارسة أنواع أخرى من الضغوط عليها، كتكليفها بما لا تطيق من أنواع التعاملات أو حتى إرغامها على التظاهر بمشاعر والتظاهر بعواطف، لا تجد لها في قلبها مسوغاً أو محلاً، كل ذلك تفعله، طمعاً في إرضاء غيرها ممن هو خارج عنها، أو قد يقع ظلم النفس بنقيض ذلك من نسبة الكمال لها ورفعها فوق المكان الذي لا تعدوه، وهذا كله تكلف وخروج عن حد الاعتدال.
ويقع الذنب في حق النفس كذلك؛ بقهر ها وكبتها كتسويغ إيقاع الظلم عليها.بمبررات من اختلاق البشر، أو بحرمانها من أسباب الانشراح والابتهاج والتنعم والتوسع، في دائرة المباح، وعدم الاعتراف بحقها في حياة سوية كريمة هانئة، كما أراد الله لها.
وهناك مسالك تفضي لتضييع بوصلة الطريق على أقل تقدير، إما باختيار نماذج ناجحة للاقتداء، ولكنها تبعث في نفسه دوام الشعور بالحسرة والسخط والامتعاض لكونها في الأصل لا تتناسب مع شخصه، أو ليست متاخمة لزمنه، ومكانه، أو بظلم النفس باحتقار ما أودعه الله فيها من قدرات، والتشاغل بالاكتفاء بالقيام بدور المتابع بنهم لتفاهات أخبار الآخرين ويوميات حياتهم العادية، أو الرضا بدور المتفرج بحسرة للقشور من حياتهم الزائفة، في حين أنه في غمرة متابعته تتساقط نفسه قطعة إثر قطعة! (وشاهد ذلك ترند الهشتاقات ذات المحتوى القائم على التطفّل والتنمّر والتفاهة معاً) إلا أنه يبقى من أصعب أنواع قهر النفس نسيان الرسالة، والتفريط في الوظيفة الكبرى في الحياة.
والنفس تعبر عن معاناتها من خلال، ما يحسه المرء من وحشة في قلبه، أو تكدر في مزاجه، أو تقلب في انفعالاته، أو انسداد في بعض أبواب رزقه، وكذلك تعطّل أهدافه، أو مرض في بدنه، أو حتى تغير قلوب الناس من حوله.
وتطال تلكم الآثار أعضاء الجسد، وتنعكس عليها؛ فالقلب ضعف وأرهق من قبول الظلم ودوام الحزن، أو أنه تصبغ وتورم من فرط ما يحمله من أثقال السخط والبغض والغيرة والحسد، وتشمعت الكبد غيضاً وغضباً، والمعدة تقرَّحت توتراً وقلقاً، والحنجرة التهبت من الإمساك عن التعبير وطول ابتلاع الكلام فرقاً وخوفاً، والمفاصل تجمع فيها غبن سنين، أما الظهر فقد ثقل واحدودب وتخلخلت فقراته من جراء ثقل الهم مع الشعور المزمن بفقد المعين والسند، وهذه مؤشرات تشير إلى التقصير الفادح في حق النفس، بحملها على ما لا تقوى على احتماله، ولا يقتصر الذنب على اقتراف المعصية والذنب بالمعنى السائد.
إلا أنه من لطائف الله ورحماته بعبده النسيي الضعيف، كما أن ذنوبه مستورة، فهي تمحى دون عنت ومكابدة، أو إعلان وباعتراف لبشر ومجاهرة، أو حتى باستيفاء شروط، وأثرها يبرأ على الفور، وكسرها يجبر من حينه، وبصيرته تنبثق على التو، يحدث ذلك، بمجرد تسليط نور الانتباه والتذكر؛ على مواقع الذنوب، والوعي بالسبب وبالأثر معاً، فهو حين ينتبه إلى أنه قد غفل عن جادة الطريق، لا يمكنه من فعل شيء حينها، إلا الاستدراك العاجل، والأوبة الفورية، وطلب العفو والمغفرة، فإن وجد في نفسه تثاقلاً وعجزاً، وفي الحل صعوبة وتعقيداً، فهذا ينم على أنه لم ينتبه بكامل وعيه.
فقط انتبه إلى أن ذنبك لا يطال إلا إياك، واستغفر الله لتقصيرك في حق نفسك. {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (201 الأعراف).